جبال لبنان المهشّمة: من يتكفّل بالـ"ليفتينغ"؟

كتبت كارين عبد النور في نداء الوطن: 

ماذا عن بعضٍ من ازدهار إقتصادي من رحم التدهور البيئي؟ لا، ليس هذا سؤالاً افتراضياً: إستصلاح أراضٍ متضرّرة في مواقع الكسارات والمقالع والاستفادة منها في مشاريع بيئية وسياحية. «تجليل» تلك الأراضي للإنتاج الزراعي. إقامة حدائق عامة ومطامر للنفايات مكسوّة بالأشجار فوقها. بناء منتجعات رياضية وترفيهية وحفر تماثيل فوق الصخور المشوّهة. أفكار لا ينقصها سوى التنفيذ. والتنفيذ بحاجة إلى تمويل. قد يرى البعض في ذلك مبالغة. لكنّ هذا نداء لجهات مانحة تخصّص أموالاً في كل اتّجاه. البحث هنا ببساطة عن مشاريع استقطابية تحوّل بشاعة متعمَّدة إلى جمال من نوع آخر.

ليس الهدف استذكار الكوارث البيئية التي سبّبتها- وما زالت- الكسارات والمقالع العشوائية في بلد المحاصصة والمحسوبيات. فالجميع على بيّنة من آثارها الصحية والبيئية والجمالية وحتى الـ»زلزالية» الجمّة. لكنّ هناك جانباً إيجابياً للمسألة والشواهد تأتينا من دول عدة.

أوروبا تحوّل مقالع الصخر إلى مواقع سياحية. وإيرلندا تطمر في حُفرها النفايات لتزرع فوقها شتى أنواع الورود والأزهار، محيلة المواقع حدائق عامة يقصدها السياح من كل مكان. أما في الولايات المتحدة، فوجوه أربعة رؤساء سابقين (جورج واشنطن، توماس جيفرسون، ثيودور روزفيلت، وابراهام لينكولن) منحوتة على صخور جبل راشمور، أبرز نصب تذكاري وطني هناك. عربياً، قامت المملكة العربية السعودية بتحويل سلسلة جبال شرعان في منطقة العلا ذات التشكيلات الصخرية الهائلة إلى محمية طبيعية، إضافة إلى نحت غرف فندقية معلّقة في الجبال بطريقة فنية رائعة. الأردن أبدع بدوره في نحت مزيج من الفنون المعمارية القديمة التي تنتمي إلى حضارات متنوّعة، فكانت البتراء وهي مدينة كاملة منحوتة داخل الصخر الوردي اللون كأحد أشهر مواقع الجذب السياحي في العالم. لا شيء مستحيل.

إبداع بالانتظار

في اتصال مع «نداء الوطن»، يبادرنا البروفسور المهندس خالد عمر تدمري، الأستاذ في كلية العمارة والفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، بأن الفكرة ليست بالجديدة حيث جرى طرحها في كلية العمارة في أكثر من دراسة دبلوم لطلاب الهندسة. أما الهدف منها فكان كيفية معالجة مواقع الكسارات بمشاريع تضفي جمالية على الأماكن المشوّهة. ويتابع: «من أكثر الأماكن التي تعرّضت إلى التشويه هي تلك الواقعة في محيط قلعة المسيلحة والتي كانت... قطعة من الجنة. فكانت الجبال تصل إلى أسفل التلة التي تقع عليها القلعة متوسّطة الوادي. لكن مع الأسف، «أكلت» الكسارات بداية جزءاً معتبَراً من هذا الجبل. وجاء بعدها سدّ المسيلحة، الذي أُنفقت عليه المليارات دون أي جدوى، ليبيد ما تبقّى من معالم هذا المكان الرائع». وبالفعل، عمل بعض طلاب الجامعة على مشروع تحويل المكان إلى منتجع رياضي للتسلّق أو إلى متحف معلّق في الهواء بطريقة تسمح بإعادة شكل الجبل إلى ما كان عليه، واستثماره كموقع سياحي أو ترفيهي أو رياضي يطلّ على القلعة. لكن لا تسألوا عن التنفيذ. فهو عالق بانتظار «حَسَنَة» ما من الدولة أو مموّلين.

تعويض الضرر

سدّ المسيلحة نموذج لا أكثر عن «مجازر» بيئية لا تنتهي. فما يحصل في منطقة الضنية مثال يُبرز حجم الكارثة التي تتعرّض لها جبال لبنان دون أي محاولة جدّية للتعويض عن الضرر الحاصل أو «الاستفادة» مما يحصل حتى لو بعملية تشجير بسيطة. هنا حدّث ولا حرج. من مخالفات قضم الجبال وتقطيع الصخور، إلى الكسارات في محيط معمل الإسمنت في شكا والتي تُعتبر مسبّباً رئيسياً للتلوّث البيئي... كما تدمير محيط الجبال التي تقع ضمن نطاق اتحاد بلديات الكورة. في هذا السياق يوضح تدمري: «في حين أوقفت معظم الدول المتحضّرة مجازر بيئية مشابهة، ما زال لبنان يسمح بالتمادي في التعدّي الإجرامي على الطبيعة. والأعمال، رغم التظاهر بوضع حدّ لها، لا زالت مستمرّة بطريقة سرّية». من هنا يرى أن استثمار مواقع الكسارات، كون الضرر واقعاً حتماً ولا مجال للعودة بالزمن إلى الوراء، من شأنه تحسين شكل الموقع بعد تعرّضه للتشويه، أولاً، كما يُعَدّ قيمة اقتصادية مضافة أو عامل جذب للمنطقة، ثانياً.

«الاستثمار الذي نتحدّث عنه يجب أن يُدرس بحسب مقوّمات كل منطقة ومحيطها على حدة. لكن، كوننا نتكلم عن مواقع جبلية، فمن البديهي أن نبحث عن مشاريع مرتبطة بالطبيعة الجبلية كالتسلّق وحب المغامرة، خاصة وأن لبنان بلد سياحي ويعتمد على السياحة ومراكز الترفيه والرياضة والاستجمام وغيره»، والكلام دوماً لتدمري. إنما ماذا عن السياسات العامة التي تقدّم الدولة بموجبها الأراضي أو تلزّم المشاريع ضمن عقود لعدد سنوات معيّن لشركات تقوم بالتنفيذ والاستثمار، شرط أن تعود ملكية المشاريع عند انقضاء مدة التلزيم للدولة؟ فمغارة جعيتا، مثلاً، لم يكن من الضروري أساساً (بحسب كثيرين) تلزيمها لشركة خاصة. لا بل كان يجب أن تتبع مباشرة لوزارة السياحة كونها موقعاً كاملاً متكاملاً لم يُصرف عليه أي مبلغ ليستعيد بريقه. وهذا بعكس المواقع «المشوّهة» التي تتطلّب معالجتها واستثمارها ميزانيات ضخمة.

إعادة تأهيل متنوّع

حسناً. لكن كيف، بلغة تقنية، تُنفَّذ مشاريع مماثلة على أرض الواقع؟ للإجابة عن هذا السؤال تواصلت «نداء الوطن» مع الدكتور في علم الإدراك البيئي، جوني فنيانوس. ويقول: «لا شك أن مواقع الكسارات والمقالع الموجودة في لبنان متروكة لِقَدَرها ويلزمها إعادة تأهيل. فلدينا الكثير من المواقع الكبيرة والمتنوّعة التي يمكن استخدامها لخدمة المجتمعات المحيطة بها». وتشمل كلمة «إعادة التأهيل» احتمالات ثلاثة. الأول هو «استعادة» الموقع للوضع الذي كان عليه من قبل (Restauration) - وهي عملية شبه مستحيلة نظراً للكميات الكبيرة من الصخور التي يتمّ اقتلاعها. أما الثاني فهو «إعادة التأهيل البيئي» (Ecological Rehabilitation) - أي إعادة تأهيل المقلع بطريقة تساهم في استرداد وظائفه الطبيعية بأفضل ما يمكن، مع الأخذ بعين الاعتبار كل التطورات الإيكولوجية التي حصلت في المكان، مثل ظهور نباتات وأشجار ذاتية النمو مع مرور السنين. وأخيراً الاستصلاح (Reclamation) الذي يرتكز على التغيير الكلّي لطريقة استخدام الموقع بطريقة تستجيب لمتطلبات المجتمع المحيط، كأن يتحوّل إلى ملعب كرة قدم أو إلى مكبّ للنفايات أو إلى حديقة عامة.

«إن أي مشروع إعادة تأهيل يجب أن يكون مشروطاً بدراسة تقييم أثر بيئي. فالدراسة المسبقة ضرورية لأن النُظم التي تعرّضت للتكسير هي مثل الجرح أو الحرق لدى الإنسان لا يمكن تعريضها إلى أي نوع من أنواع التلوّث كي لا تلتهب»، بحسب فنيانوس. نستفسر عن كيفية الإعداد لمشروع إعادة التأهيل. فإضافة إلى رأي الخبراء، لا بدّ من إشراك المجتمع المدني والبلدية المعنيّة وسكّان المنطقة في اختيار المشروع الذي يناسبهم ويلبّي احتياجاتهم وذلك تأميناً لاستمراريته. ورغم أن الأفضلية دوماً تكون لاستعادة المقالع لوظائفها الطبيعية، غير أنه يبقى من المستحسَن الاستفادة من موقع تعرّض للتشويه في ما مضى لتحقيق مشروع رياضي، مثلاً، بدلاً من التسبّب بتدمير موقع آخر. وكلّ ذلك يحصل تماشياً مع القانون ومراسيم وأنظمة وزارة البيئة.

نقص تمويل وعراقيل

 

تتعدّد المشاريع بتعدّد الابتكارات اللبنانية. لكن عوامل كثيرة تقف حاجزاً دون إبصارها النور. في هذا الإطار يشرح فنيانوس أن معظم المموّلين أو الواهبين من خارج لبنان يشترطون قيام هذه المشاريع على أراضٍ عامة، وهي نادرة نسبياً. «لنعتبر أن ثمة 1200 مقلع في لبنان. فهي بمعظمها مواقع ورثناها منذ أيام الحرب والفوضى حيث تمّ تدمير الجبال بطريقة وحشية وغير منتظمة. كذلك، فإن معظم من عملوا في هذه المقالع فارقوا الحياة في حين أن معظم الأشغال شكّلت اعتداء على أراضي الوقف أو على أراضٍ خاصة ليست ملكاً لهم. فلا المالك الحالي الذي دُمّرت أرضه مُجبر على إعادة تأهيلها على قاعدة «من يلوّث يدفع» (Pollueur payeur) التي تعتمدها مؤخّراً معظم الدول، ولا الدولة مستعدّة للاستثمار في أراضٍ خاصة يمكن لأصاحبها استعادتها ساعة يشاؤون»، كما يضيف فنيانوس. وهكذا تبقى الحلول تُراوح في دائرة مفرغة.

من جهة أخرى، أشار فنيانوس إلى دراسة حول طمر الردميات الناجمة عن عمليات شق الطرقات وهدم المباني في البقاع. الدراسة تطوّع لإجرائها مع فريق من المهندسين إبان ولاية وزير البيئة السابق، فادي جريصاتي، وتهدف لإعادة إعمار الأرض التي قضت عليها كسارات سدّ القرعون. «كان هناك أكثر من 100 ألف طن من الردميات ناتجة عن أعمال بناء وفتح طرقات. قدّمنا دراسة لاستخدام هذه الكمية من أجل إعادة تشكيل (Reshaping) ما هدّمته الكسارات في محيط السدّ، لكن غياب التمويل أعاق مرحلة التنفيذ».

التكاتف والأمل والأفكار والحلول والحديث يطول. لكن يبقى المطلوب واحداً: «تمويل الجمعيات من أجل تحسين صورة البلد بدلاً من صرف المساعدات، مثلاً، على أجانب يسيئون في بعض الأحيان إلى صورته. يكفي تحميل وزارة البيئة المسؤولية... فلا إمكانيات لديها للتنفيذ في حين أن المحسوبيات والفساد مستشريان في جزء من القضاء والضابطة العدلية والقوى الأمنية ما يمنع التقيّد بقرارات الوزارة».

لسنا بالطبع مسكونين بأوهام عن استنساخ «بتراء» أو «راشمور» أو «العلا» ذات صناعة لبنانية. لكن هذا لا يعني استحالة العمل على خطة شاملة ومتكاملة تعيد تأهيل ما دمّرته كسارات ومقالع الفساد. فإتاحة الفرصة لرشّة إبداع فوق صخور مهشّمة خير من لعن مسبّبي التهشيم.