جبران في ذكراه العشرين: التحرير الثاني

عشرون ذكرى تكتمل اليوم على اغتيال جبران تويني، لم تخلُ واحدة منها من مشاعر حزن وغضب وخيبة، وسط انطباع بأن لبنان لن يحقق أبداً تلك الخيارات السيادية التي كُتبت بدم الشهداء، وعبّر عنها جبران بأصدق تعبير عندما أطلق قسمه الشهير الداعي ليس فقط لوحدة لبنان وسيادته واستقلاله، بل لحماية العيش المشترك بين أبنائه.


لم يستهدف تفجير المكلس روح جبران وجسده، بل رمزيات ثلاثاً اختصرها في فكره ونهجه: رمز الصحافة يوم كانت سلطة ومساحة نقاش وضغط سياسيين، لا مجرد شاهد على مشهدية انهيارات متلاحقة، في السياسة كما في الإعلام أو الاقتصاد، رمز حقبة حلمت بدولة وسيادة ولم تكتمل أحلامها بعد، ورمز إنساني لرجل دفع ثمن مواقفه لجيل جديد يقرأ قصة عن شجاعة باتت نادرة في الزمن الحالي.

جاء اغتيال جبران استهدافاً لمشروع متكامل كان في طور التبلور في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ لبنان، مشروع السيادة والدولة، إنهاء الوصاية الأمنية والسياسية لسوريا التي خنقت البلاد لأكثر من ثلاثة عقود. واليوم، بعد مرور عقدين على الاغتيال ليست الذكرى مناسبة حزن على تلك القامة البارزة التي خسرها لبنان، بل محطة لقراءة التحولات الكبرى التي يشهدها البلد والمنطقة والتي جعلت الكثير من شعارات جبران ومواقفه، جزءاً أساسياً من النقاش الوطني الحالي وربما من تلك التحولات.

في الزمن الذي كانت فيه الانتقادات تُكتب بالحبر الخافت، رفع جبران صوته عالياً دفاعاً عن سيادة لبنان وإنهاء الاحتلال السوري. وفيما اعتقد كثيرون أنه بعد اغتيال رفيق الحريري وخروج السوريين، بدأ مشروع الدولة يتحقق، أثبتت التطوّرات السياسية أن الانسحاب العسكري للجيش السوري لم يكن نهاية النفوذ الخارجي على لبنان، بل بداية لشكل جديد أكثر حضوراً وخطراً تمثل بصعود نفوذ "حزب الله" وسلاحه. وكان جبران من أوائل من طالبوا بمعادلة أن لا دولة قادرة في ظل سلاح من خارجها، ولا سيادة كاملة تحت وطأة نفوذ عسكري من خارج مؤسسات الدولة. ومع سقوط نظام الأسد العام الماضي الذي تزامن مع الذكرى التاسعة عشرة لاستشهاد جبران العام الماضي، انقلبت المعادلات الإقليمية التي ولد فيها اغتيال تويني، ذلك أن تراجع دور سوريا في لبنان لم يترجم استعادة لسلطة الدولة، إذ وجدت البلاد نفسها أمام وصاية جديدة داخلية هذه المرة، مصدرها سلاح في يد فريق محلي بامتدادات إقليمية، حوّلت المشهد اللبناني اليوم إلى رهينة في يد اللاعب الإقليمي الذي يمثله نفوذ الحزب. ورمزية الذكرى هذه السنة، أن سلاحه لم يعد من المحرّمات، وأن الطريق نحو حصرية الدولة في حمل السلاح بدأت تخطو خطواتها البطيئة ربما ولكن الثابتة نحو تحقيق ما استشهد من أجله جبران. لم يعد مشروع جبران منسيّاً، بل ربما الأصح مؤجلاً، في انتظار اكتمال مشهدية سقوط منظومة النفوذ الذي حاربها.