جوزف أبو خليل... مَشاعٌ وَفائِيّ

جوزف أبو خليل مَفهومٌ مِحوَريّ عندما نصلُ الى مَلاقِطِ الوفاءِ. هو حُلوُ الصّداقةِ والصّدق، وعنوانُ شَبكِ الأصولِ عندما يَبحثُ النُّبلُ عن نُسختِه الأَصليّة. والوفاءُ لم يكن معه يوماً إلّا مُتواصِلَ الإزدهار، فهو لاعبٌ أساسيّ في ميدانِ إمبراطوريّتِه الوجدانيّة، وليس من المُرتَزَقة. من هنا، كانت دُنياهُ مَعشوقةَ السُّكنى، فجوانبُه دائماً مُضيئة، لذلك لم يكن لَيلُه عُرياناً، ولم تكن دِيارُه مُمَزَّقة. وإِقبالُ المُحِبّين يودِعونه بِسَخاءٍ نبضَ القلوب، كان خزّانَ نَعيمِه.
لم يكن جوزف أبو خليل موسميّاً في حُبِّه الوطن، فعِزّةُ الجِبال في نقاوتِها هي نَفَسُه، لأنها مَدٌّ موصولٌ في حياتِه، يرفضُ أن يشعرَ إليها بالحَنين. هو مؤمنٌ بعَنقائيّةِ لبنان، بالرَّغم من المِحرقةِ التي فرضوها عليه، فخلودُ الوطن معه لم يكن من الأساطير، وذلك ليبقى اللهُ يبتَسِم.
لم يكن الوطن سِرّاً مَهجوراً كالحزن، فجوزف عاشَه في مَواكبِ حياتِه، وانصرفَ الى بابِهِ واحتفلَ به الى حَدِّ الإِمتاع. لقد جعل الوطنَ نشيداً مُوَقَّعاً يتلوهُ قلبُه، حتى قيلَ إنّه، في عشقِهِ لبنان، يستغرقُ في المثاليّة أو يتوغَّلُ في الفَوق. أمّا هو، فقد كان ينقلُ ما انطبعَ في إحساسِه من نَسجِ حالةٍ تلامسُ العِبادة، وكان بذلك صائِباً.
كان جوزف أبو خليل، بِوَعيِهِ الوطنيّ، مُعَلِّماً إيجابيّاً وليس امتِعاضِياً، وهذا تَمييزٌ له في مُقاربةِ ما رافقَ الوطنَ من ظروفٍ لَذّاعَة. كان يَعلَمُ تماماً أنّ الغَدرَ ساقَ الوطنَ الى المَقدورِ الخَبيث، والى مَيزانِ الخِزيِ، والى استطابةِ الظّلم، وكأنّ مجتمعَنا افترشَتهُ شيطانةٌ حَرَمَته حُلْوَ العيش، ووزَّعَت فيه أَبالِسَتَها الذين شَلّوا مَفاصلَه، فلم تَعُدْ تنفعُ معه شَفَقَةُ عَكّاز. لكنّ جوزف، والوطنيةُ مادتُهُ الخام، لم يُحَملِقْ في وجهٍ للوطنِ قَبَّحَتهُ الشّرور، بل الى مقاماتٍ لو نُطيلُ الطَّوافَ بها، كما كان يقول، لجَلَسنا الى سُفرةِ وطنٍ لم تَحتَضِن إلّا أَطباقَ الأملِ والرّجاءِ وجُبلةِ الخَير.
جوزف أبو خليل لا يمثِّلُ صورةً للمُنتَمي الى مُعتَقَدٍ أو مَبدأ، إنّه صانِعُ الصّورةِ ببساطةٍ وبعيداً عن أيِّ تعقيدٍ دِعائيّ. لقد انتقلَ من رَجُلٍ الى مِرآةٍ صافيةِ الصَّفحة، تُفصِحُ عن صياغةِ تجربةٍ حزبيّةٍ عميقة، تعودُ بنا الى ذلك الزّمانِ الذي بدأَ فيه النّاسُ يُعَبِّرون عن ارتباطاتِهم الجَماعيّةِ بالوطنِ أرضاً سرمَدِيّة، حتى تَمَدَّدَ التِزامُهُ فوقَ جسدِ الكتائبِ مدرسةً لمفهومِ الإنتماءِ وحماسةِ الولاء.
جوزف أبو خليل لم يُحَمِّلْ ثِقلَه أَحَداً، لقد قرعَ بابَ الحياةِ وحدَه، في الشِدَّةِ رأى ما لا نراهُ بالنِّعمة، ولم يتبدَّدْ حلمُهُ الذي صَمَدَ صمودَ قلبٍ نَقِيٍّ صافحَ الفرحَ والأَملَ، فبادَلَه رِفاقُه حُسنَ العِشرةِ وكريمَ اللُّحمَة، ولا عَجَب، فالسّادةُ لا يَختارونَ إلّا جِوارَ السّادةِ جِواراً.
جوزف أبو خليل، وأنتَ تُجاورُ السّماء، إنّ الوفاءَ الذي نَطَقَ بعدَ مَوات، يقولُ لكَ: شكراً.