حارة المسيحيين في النبطية: 70 شخصاً صامدون!

كتب رمال جوني في نداء الوطن: 

يكاد يقتصر الوجود المسيحيّ في حارة المسيحيّين في النبطيّة على 70 شخصاً فقط. أبناء الحيّ «فلّوا» زمن الإحتلال ولم يعودوا. باعوا أراضيهم ومنازلهم. أسّسوا حياتهم في بيروت أو في بلاد الغربة. تُجسّد الحارة نموذجاً واضحاً عن العيش المشترك في «بلاد البشارة». لم تشهد العلاقة بين أبنائها وأبناء النبطية «ضربة كفّ». كما لم يَسُدها أيّ توتر. قد تكون المدينة الوحيدة في لبنان التي لم تعرف اضطراباً في العلاقة بين مسلميها ومسيحيّيها، حتى في أحلك ظروف الحرب الأهلية. عند مدخلها الرئيسي يستقبلك مسجد «عيسى بن مريم»، وعلى بعد أمتار منه تقف كنيسة «سيّدة النبطية» والتي انتهى بناؤها عام 1902. هذا التعايش يُجسّد صورة مصغّرة عن الوطن. يعود تاريخ وجود المسيحيين في النبطية إلى أكثر من مئتي عام عندما وفدت أول عائلة مسيحية من آل رحالا وهي من أصل بعلبكي إلى النبطية، واشتهرت بصناعة النحاسيات والحدادة العربية، إضافة إلى الزراعة.

صمدت الحارة في وجه التحدّيات. لم ينجرّ أهلها يوماً إلى حروب وصراعات، بقي العيش المشترك هو السائد. عادة ما تكون الطائفية وقود أي حرب. هذه الصفة تختفي كليّاً في حارة المسيحيين. مشكلة الحارة تكمن في هجرة أبنائها وبيع أراضيهم ومنازلهم. في الحارة، تجمع القهوة والجيرة أبناءها من المسيحيين والمسلمين. وحدها الأزمة المعيشية تؤرق سكّانها، تسيطر على أحاديثهم. 70 شخصاً هو العدد الباقي في الحارة. يتوزّعون بين منازلها الحجرية العتيقة، ذات الهندسة القديمة. لم يطرأ أي تعديل عليها، ما زالت على حالها. حين تسأل عن سبب فراغ الحارة، يجمع الكل أن الإحتلال والحرب بين سعد حداد والفلسطينيين هما السبب. «فلّوا» ولم يعودوا.

عند مدخل أحد المنازل تقف جورجيت، تُحضّر «العصّورة». الحارة بالنسبة لها «أوكسجين» حياتها. لا تزال أم طوني في منزلها. ترفض مغادرته فهو جزء من تاريخها. تنفي وجود أي ضغوط تمارس عليهم للرحيل، بل تؤكد أن الجميع يُصرّ على بقائنا للمحافظة على العيش الواحد. عادة ما تصلّي في الكنيسة، ترافقها في أحيان كثيرة جارتها فاطمة، هذه اللحمة تثني عليها أم طوني «نحن أكثر من إخوة هنا». وتشير إلى أنّ معظم سكّان الحارة اليوم من الشيعة الذين «اشتروا المنازل من أبناء الحارة بالتراضي والعلاقة معهم أكثر من ممتازة».

مختار الحارة وحافظ تاريخها

من النادر أن تمرّ في الحارة ولا تقف عند مختارها شوقي متّى. حفظ تاريخها عن ظهر قلب، لم يتقاعس عن ممارسة مهامه. أوكل مُهمّة التواصل مع أبناء الحارة إلى زوجته سامية، هي «مختارة» أيضاً وتُدرّس في إحدى المدارس الرسمية في النبطية. تحسم المختارة الجدل، «لم يجبر أحد المسيحيين على المغادرة أو بيع أراضيهم، لم نتعرّض للمضايقات يوماً»، غير أنّها تلفت إلى أنّ «من باع نادم، ويتحسّر على عدم وجود منزل له في الحارة».

ما لا شك فيه أنّ الأزمة الاقتصادية أثّرت في حياة أهل الحارة، أسوة بكل سكان النبطية، وهو أمر يترك آثاره على الجميع وفق عضو بلدية النبطية نمر عسّاف، الذي يؤكد قيمة التعايش الذي رسمته الحارة مع النبطية، وقيمة التآخي الذي تجسّد في كثير من المناسبات.

من جهته، يُثني عضو بلدية النبطيّة نمر عسّاف على روابط عائلية جمعت عائلات مسيحيّة مع أخرى شيعية بفعل «زيجات» متّنت الجسور التي تربط حارات النبطية ببعضها البعض. يُسلّط عسّاف الضوء أكثر على قضية بيع الأراضي، يلقي اللوم على أبناء الحارة أنفسهم، لافتاً إلى «أنّهم باعوا أراضيهم إلى سماسرة سرّاً. أمّا الأراضي التي عرفت بأمرها فاشتريتها لأبنائي». الجيل الشاب في الحارة يُبدي تعلّقاً كبيراً بها. يرفض التخلّي عن ذرّة تراب. صحيح أنّ بعضهم يعيش في الإغتراب، غير أنّه متعلّق بالأرض، وهو ما تشدّد عليه سامية، لافتة إلى أنّها وضعت كرم العنب باسم ابنها المغترب لأنه أصرّ على ذلك، خوفاً من بيعه.

في العام 2019، التقى شمل أهل الحارة في رتبة دفن السيّد المسيح. زار الحارة العديد من أبنائها القاطنين في بيروت بعد غياب طويل. سيطرت على الجميع دموع الحزن، وندم التخلّي عن بيوتهم.

أبناء الحارة بمعظمهم وفق عسّاف كانوا من المالكين، يملكون عقارات واسعة داخل وخارج النبطية، أبرزها مزرعة الحمرا التي تقع في زوطر الشرقية، جرى بيعها بالكامل. ولا يخفي عسّاف محاولات أبناء الحارة المغتربين بيع ما تبقّى من أراضيهم، مشيراً إلى أنّ «قلعة ميس» التي تقع بين أنصار والزرارية وعبا وتعود ملكيتها لأبناء الحارة وتحديداً لآل الغفري معروضة للبيع! رغم غياب معظم سكّانها، غير أنّ الحارة ستبقى حاضرة بكل تفاصيلها في تاريخ النبطية وحاضرها، وهو أمر يحرص عليه أهلها وأحزابها وإمامها الشيخ عبد الحسين صادق، بدليل الحفاظ على المقعد المسيحي الوحيد في المجلس البلدي، والذي بات عرفاً كما يقول عسّاف: «فزت بأصوات شيعة النبطية فالـ70 صوتاً لا تأتي بعضو بلدية».

في الخلاصة، يرتبط الوجود المسيحي في منطقة النبطية بإصرار المسيحيين على البقاء. هذا التمايز والتعايش يشدد عليه الشيعة قبل المسيحيّين وفق عسّاف لأنّه أيقونة التآخي الذي يبني وطناً.