حاكم المركزي السوري: لن نقفل الباب أمام المصارف اللبنانية

اختيار الدكتور عبد القادر الحصرية حاكماً لمصرف سورية المركزيّ هو دليل على التوجّه الاقتصاديّ لحكومة الرئيس أحمد الشرع ونظرتها إلى طريقة إدارة البلاد في المرحلة الجديدة. لم يأتِ الرجل من صفوف حزب البعث، ولا كوّن ثقافته من الشعارات الخشبيّة التي سقطت بسقوط العهد البائد. بل هو ابن العصر. درس في الجامعة الأميركيّة في بيروت واكتسب تجربته المهنيّة المميّزة في إحدى أهمّ شركات التدقيق العالميّة. يعرف تمام المعرفة المفاهيم الاقتصاديّة والماليّة الحديثة، ولا يُخفي إيمانه باستقلاليّة المصرف المركزيّ، كسلاح معترَف به عالميّاً لمكافحة التضخّم والحفاظ على متانة النقد الوطنيّ وسلامة النظام الماليّ.

مصرف سورية المركزيّ مؤسّسة لها تاريخ منذ تأسيسها سنة 1953 بموجب “نظام النقد الأساسيّ وإحداث مصرف سورية المركزيّ”، الذي أرسى الأسس الصحيحة لإدارة النقد في البلاد، قبل أن تجرف هذه الأسس الموجات الأيديولوجيّة اعتباراً من سنة 1958 وتقضي على قواعد اقتصاد السوق.

في ذلك الوقت، اعتبر الحاكم التاريخيّ للمصرف عزّت طرابلسي أنّ التغييرات الجارية ستدمّر الاقتصاد السوريّ، فتصدّى للرئيس جمال عبد الناصر وأصرّ على استقلاليّة المصرف المركزيّ السوريّ. كان طبيعيّاً أن يستقيل طرابلسي ويتنحّى أمام الإدارة المركزيّة للاقتصاد، التي بقيت تدفع باقتصاد سورية إلى الوراء حتّى اليوم الأخير من عهد بشّار الأسد.

عودة متأنّية إلى الحرّيّة الاقتصاديّة

يعرف عبدالقادر الحصرية هذا التاريخ جيّداً، ويدرك أنّه أحد الروّاد المكلّفين ببناء الاقتصاد السوريّ الجديد. السؤال البديهيّ في بداية الحوار هو عن توجّه الحكومة الجديدة لالتزام نهج الحرّيّة الاقتصاديّة وعمّا إذا كان هذا الالتزام ممكناً بعد ستّة عقود من حكم البعث و14 عاماً من الحرب الأهليّة.

أجاب بكلّ ثقة: نعم، وأضاف: “التحرير التدريجيّ لاقتصاد ما بعد الحرب الأهليّة ممكن، لكنّه يتطلّب مجموعة متزامنة من الشروط: استقرار أمنيّ وسياسيّ مستدام، إصلاحات مؤسّسيّة وماليّة للنظام المصرفيّ والضريبيّ والجمركيّ، شفافيّة في إدارة الموارد وفتح تدريجيّ للتمويل الخارجيّ والاندماج في الأسواق الإقليميّة والدوليّة. خطوة التحرير يجب أن تكون مدروسة لتجنّب صدمات سلبيّة في الأسعار وعلى الشرائح الاجتماعيّة الضعيفة، وهذا ما تعمل عليه الحكومة. بالنسبة لنا في مصرف سورية المركزيّ ستكون أولويّاتنا استقرار أسعار الصرف والسيولة، إصلاح القطاع المصرفيّ، دعم القطاعات الحاضنة للوظائف عبر توفير تمويل مختلط blended finance يكون للقطاع المصرفيّ دور فيه. لا بدّ من برامج حماية اجتماعيّة بتمويل خاصّ لتخفيف الأثر على الفئات الهشّة ضمن الإمكانات الماليّة المتاحة، ومن دون الاعتماد على التمويل بالعجز. بالنسبة لنا الانضباط في الماليّة العامّة هو من المسلّمات التي لا يمكن النقاش فيها”.

قلنا للحاكم: “لاحظنا أنّه على الرغم من التقدّم الذي أحرزته سورية منذ سقوط النظام السابق، والانفتاح العربيّ والدوليّ عليها، والوعود بعقد اتّفاقات استثماريّة، توقّع البنك الدوليّ أن يحقّق الاقتصاد السوريّ نمّوّاً طفيفاً سنة 2025 لا يتجاوز 1%”.

علّق على ذلك بقوله: “تنفرد الحالة السوريّة بأنّ البلاد خرجت من الحرب وهي تحت عبء واحد من أقسى أنظمة العقوبات التي تراكمت عبر خمسين سنة، وجملة من القيود والمخاطر المتّصلة بالعقوبات، وتجميد أصول وقيود تحول دون الوصول للنظم المصرفيّة الدوليّة، مشكلات سيولة محليّة، تدمير واسع للبنية التحتيّة وارتفاع تكلفة إعادة الإعمار، ونقص واضح في البيانات الماليّة الاقتصاديّة الموثوقة. تحصل الحروب الأهليّة وبعدها تكون إعادة الإعمار، لكنّ الحالة السوريّة فريدة إذ ترافقت الحرب مع أقسى أنظمة العقوبات في التاريخ. مع ذلك استطاع الاقتصاد السوريّ الاتّجاه نحو التعافي بحسب تقرير صندوق النقد الدوليّ الصادر في 14 تشرين الثاني 2025 بفضل السياسات التي اتّبعناها. اليوم لدينا أكثر من مليون ونصف عادوا من دول الجوار، إضافة إلى تدفّق من السياحة وتحويلات المغتربين. لذلك نتوقّع أن يعيد البنك الدوليّ تقديراته للنموّ ويستدرك ما غفل عنه تقريره من نموّ تمّ تحقيقه أو متوقَّع”.

75 مليار دولار كلفة إعادة إعمار المساكن

سألنا الحاكم الحصرية: “في تقرير البنك الدولي بعنوان “تقويم الأضرار الماديّة وإعادة الإعمار 2024 – 2011″ قّدر البنك كلفة إعادة الإعمار بمبلغ متحفّظ قدره 216 مليار دولار، بينها 75 ملياراً لإعادة إعمار البنية السكنيّة. هل تفكّرون في برامج للقروض السكنيّة لمساعدة المواطنين على توفير هذه الكلفة الباهظة وإعادة بناء منازلهم؟”.

أجاب: “نقدّر ضخامة التحدّي الماليّ: يقدّر تقرير البنك الدوليّ الكلفة الإجماليّة بحوالي 216 مليار دولار، منها حصّة كبيرة للإسكان. لذلك سنعمل على تفعيل هيئة التمويل العقاريّ التي كان لي شرف وضع قانونها وسندرس حزمة أدوات تمويليّة متعدّدة المكوّنات وقد تشمل:

– قروضاً إسكانيّة مدعومة بفترات سماح طويلة بمشاركة المصارف التجاريّة وبضمانات حكوميّة محدودة أو عبر صناديق لإعادة الإعمار.

– شراكات عامّة وخاصّة ومبادرات تسهيل التمويل البنكيّ عن طريق إعادة رسملة مصارف مختارة.

– برامج إعادة إعمار موجّهة تدمج قروضاً مع مِنح استهدافيّة للفقراء واللاجئين العائدين.

– التنسيق مع مؤسّسات متعدّدة الأطراف والمانحين الإقليميّين لجلب تسهيلات تمويليّة طويلة الأمد بشروط ميسّرة”.

أضاف: “يتطلّب التطبيق العمليّ أوّلاً تأمين مصادر تمويل دوليّة وإقليميّة ورفع الحواجز القانونيّة والتنظيميّة، ثمّ تصميم آليّات رقابيّة لخفض مخاطر التمويل وضمان وصول الدعم للفئات المستحقّة. اليوم العالم كلّه يؤمن بسورية مستقرّة، وسنستغلّ هذا التأييد العالميّ لينعكس ذلك حلولاً لتحدّيات عمليّة الإعمار”.

تراخيص مصرفيّة جديدة

سؤال بديهيّ طرح نفسه عن إعادة ترميم وتوسيع النظام المصرفيّ السوريّ لكي يساهم في النموّ عن طريق التسليف: هل رسمت الإدارة الجديدة للمصرف المركزيّ سياسة معيّنة لتعزيز المصارف القائمة ومنح رخص مصرفيّة جديدة برساميل وطنيّة وأجنبيّة؟

قال الحاكم: “نحن نعمل على إصلاح وإعادة تأهيل القطاع المصرفيّ ضمن استراتيجيتنا لمصرف سورية المركزيّ. سنقوم أيضاً بترخيص مصارف إسلاميّة وتقليديّة جديدة. أولويّة المصرف المركزيّ هي إصلاح البيئة الرقابيّة حتّى يصبح النظام المصرفيّ أكثر قدرة على جذب الودائع، إدارة المخاطر ودعم الإقراض للقطاع الخاصّ. تتضمّن السياسات الممكنة: رفع الشفافيّة والإفصاح، فرض معايير رأسمال وسيولة متدرّجة، عمليّات فحص وإعادة رسملة حيث ذلك ضروريّ، تشجيع دخول مستثمرين جدد ذوي قدرة ماليّة وشفافيّة (محلّية وإقليميّة) مع شروط صارمة للامتثال وإصدار تراخيص جديدة بشروط تضمن سلامة الشبكة المصرفيّة”.

الباب ليس مقفلاً أمام المصارف اللّبنانيّة

ماذا عن نظرة الإدارة الجديدة للمصرف المركزيّ السوريّ إلى مصارف لبنان بعدما تسبّب انهيار النظام المصرفيّ اللبنانيّ بخسارة النظام المصرفيّ السوريّ 1.6 مليار دولار تمثّل ثلث ودائع المصارف السوريّة في سنة 2024؟ ألا تزال المصارف اللبنانيّة مرحّباً بها لتأسيس مصارف سوريّة جديدة؟

لجأ الحاكم الحصرية إلى المبادئ والقواعد السليمة ولم يشأ التهجّم على النظام المصرفيّ اللبنانيّ. قال: “أصدر المصرف المركزيّ السوريّ تعاميم تستهدف تطبيق التقارير الماليّة الدوليّة، الواجب تطبيقها بحسب قانون المصارف الخاصّة لعام 2001، والقانون 23 لعام 2002 الذي يُلزم مجلس النقد والتسليف بإجراء اختبارات دوريّة على المصارف للتحقّق من ملاءتها وسيولتها. طُبّق هذا الإجراء على كلّ المصارف بلا استثناء، وهو تطبيق للقانون ولمعايير العمل المصرفيّ. نحن نرحّب بالاستثمار الأجنبيّ، لكنّنا نطبّق مبدأ الحيطة: أيّ مستثمر أو مجموعة مساهمين بغضّ النظر عن جنسيّتهم سيقوَّمون وفقاً لمعايير رأس المال، المصدر، سجلّ الامتثال والقدرة على دعم الاستقرار الماليّ. يعمل المصرف المركزيّ على استعادة الثقة بالقطاع المصرفيّ، وهي ثقة لا تتجزّأ وتتطلّب أن يخضع الجميع بما فيهم مصرف سورية المركزي للقوانين والأعراف وقواعد العمل المصرفيّ، والهدف هو حماية المودعين وتوفير التمويل للأعمال والاستمرار واستقرار القطاع”.

نفهم من ذلك أنّ مصارف لبنان يمكنها الدخول من جديد إلى السوق المصرفيّة السوريّة إذا “نجحت” في امتحان المعايير الموضوعيّة وقواعد السلامة التي سيضعها مصرف سورية المركزي.

العملة السّوريّة الجديدة

أين أصبحت ورشة العملة السوريّة الجديدة؟ هل تتوقّعون أن يكون لها تأثير سلبيّ على معدّل التضخّم ومستوى الأسعار؟

قال: “الخطوة المرسومة لإصدار سلسلة جديدة من الأوراق النقديّة هي جزء من حزمة إصلاحيّة تهدف إلى تبسيط المعاملات وإعادة الثقة بالعملة. لا يعتمد نجاح العمليّة النقديّة فقط على تبديل الأوراق بل على سياسات مصاحبة: إدارة نقديّة صارمة، برامج لبناء احتياطات كافية، شفافيّة في العرض النقديّ، وسياسة نقديّة متناسقة مع الأهداف الاقتصاديّة الكليّة. إذا نُفّذت عمليّة الإصدار من دون تغطية مناسبة أو من دون التحكّم في المعروض النقديّ فقد يكون لها أثر تضخّميّ قصير الأمد. أمّا إذا صاحبتها إجراءات لضبط السيولة وتحسين ثقة الجمهور (ومن ضمنها إجراءات مصرفيّة وسياسات ماليّة متناغمة) فالأثر على التضخّم يمكن تلافيه أو الحدّ منه”.

عند سقوط نظام الأسد حقّق سعر صرف الليرة السوريّة تحسّناً كبيراً وسريعاً. إلّا أنّ سعر الصرف في مثل الظروف الانتقاليّة التي تعيشها سورية يبقى معرّضاً للتذبذب. هل مصرف سورية المركزيّ مطمئنّ إلى قدرته على تحقيق استقرار مستدام في سوق القطع ضمن مهلة معقولة؟

أجاب الحاكم: “تحقيق استقرار مستدام في سوق القطع يعتمد على مجموعة سياسات من ضمنها السياسة النقديّة، وهي مسؤوليّة المصرف المركزيّ. من المهمّ أيضاً وجود تدفّقات نقديّة خارجيّة (استثمارات، تحويلات، منح)، فتح قنوات مصرفيّة دوليّة، استقرار سياسيّ وأمنيّ، والسياسات الماليّة الحكوميّة، وهو ما تعمل عليه الحكومة. مصرف سورية المركزيّ يستطيع ويعمل على أدوات “تلطيفيّة” مثل إدارة احتياطات النقد الأجنبيّ، سياسات نقديّة تقودها أهداف واضحة لسعر الصرف وعلى مدى متوسّط التضخّم، إجراءات رقابيّة لتنظيم السوق غير الرسميّة، وتنسيق مع الجهات الحكوميّة لجذب تمويل خارجيّ. نحن نتطلّع ونعمل على تحقيق الاستقرار المستدام الذي يتطلّب أيضاً إجراءات على صعيد رفع ثقة المانحين والمستثمرين وإزالة القيود العمليّة على المعاملات الدوليّة”.