المصدر: France24
الثلاثاء 21 شباط 2023 12:41:15
ينقذ يوسف عقيقي من الاندثار القبعة الصوفية التقليدية المعروفة باللبّادة التي كان القرويون اللبنانيون يعتمرونها في الشتاء، وفي بلدته الجبلية المغمورة بالثلج، يمنع ذوبان هذه الحرفة اليدوية، محاولاً أن يطورها إلى أشكال متنوعة.
يقف الحرفيّ الستيني أمام مدخل منزله في قرية حراجل بمنطقة كسروان في سلسلة جبال لبنان الغربية، مستقبلاً زواره بحرارة على الثلج المتراكم، مرتدياً "الشروال" التقليدي الأسود، وواضعاً على رأسه لبّادة ذات لون بنيّ فاتح يثبّتها على جبينه بلفّة قماشية بيضاء، فيبدو وكأنه طالع من كتاب التاريخ.
واللبادة هي قبعة مصنوعة يدوياً من صوف الأغنام تقي من البرد والأمطار.
ويشرح عقيقي أنها موروثة "من الفينيقيين"، لكنها في عصرهم "كانت أطول ومستطيلة"، في حين أن اللبّادة في اللباس اللبناني القروي التقليدي تبدو منفوخة وأكثر ميلاً إلى الشكل الدائري.
وانتشرت صناعتها في المناطق الجبلية الباردة في دول البحر الأبيض المتوسط، حيث تشكّل قطعة مستخدَمة في العمل القروي اليومي.
ويوضح أن "كبار السن في البلدة كانوا يصنعون بأنفسهم لبّاداتهم" للاستعمال الخاص غير التجاري، "أمّا المحترفون فكانوا يستخدمون صوف الأغنام لإنتاج اللبادات وكذلك البُسط والسترات".
وكانت بلدة حراجل التي تعلو 1255 متراً عن سطح البحر وتبعد نحو 41 كيلومتراً عن بيروت، مركزاً تعليمياً وتجارياً وسوقاً حرفية لأهالي قرى أعالي قضاء كسروان، يقصدونها ليتبضعوا، بحسب عقيقي.
وفي منزله المطل على سفوح جبال وبيوت غطى الثلج سطوحها، يجلس يوسف أمام الموقد يقلّب صفحات ألبوم صور، بطلُه جده بشاربه الأبيض وشرواله الأسود واللبادة التي تتوج رأسه.
ويعتز الحفيد بأناقة "أبو كرم". ويروي لوكالة فرانس برس "كان يضع اللبّادة في الشتاء أثناء عمله في الزراعة، أما يوم الأحد" الذي يتأنق فيه القرويون، "فكان يستعيض عنها بالطربوش، وكان يرتدي الشروال والسترة المطرّزَين".
ويتذكر عقيقي ذلك اليوم من ثمانينات القرن المنصرم، عندما طلب من جدّه، بمناسبة المهرجان الفولكلوري السنوي في بلدته، أن يعلّمه هذه الحرفة. وراح يراقبه، و"بعدها صنعتُ واحدة لي"، على ما يقول، ثم كرّت السبحة...
ومن مهرجان حراجل إلى مهرجانات ومعارض خارج لبنان، انتقل يوسف عقيقي، وكان أولّها في العام 2005، عندما حمل نتاجه التراثي إلى معرض في دبي.
يشتري "المعلّم يوسف" الصوف من الراعي أو الغنّام، ويبلغ سعر الكيلوغرام الواحد نحو دولارين، "وأحصل أحياناً على الصوف مجاناً"، على ما يقول.
وبعدما يغسل الصوف، ثم يضعه على السطح تحت أشعة الشمس لتجفيفه، وبعدها يقلّب قطع الصوف مدى أسبوع.
ثم يتوجه الى مشغله في الطبقة السفلى من المبنى الذي يعيش فيه، حيث تستريح صناديق تحوي كميات من اليقطين الذي يزرعه في أرضه إلى جانب الطاولة التي يعرض عليها لبّادات وقبعات ونعالاً ومنتجات اخرى من الصوف، كلها من صنع يديه.
ويأخذ المعلم يوسف كمشة صوف ويمررها على آلة الندف التي تجعل الصوف "ينفش" أي تفصل بعضه عن بعض، ثم يضعه على الطاولة وإلى جانبه وعاء فيه ماء معتدل الحرارة وصابون بلدي مصنوع من زيت الزيتون، ويباشر بصنع اللبّادة.
وتحتاج كل لبادة إلى نحو 400 غرام من صوف الأغنام المنفوش، ثم يرغي يديه بالمياه والصابون على كامل كمية الصوف الموضوعة على الطاولة، و"هذا المزيج يسهّل انكماش الصوف ليصبح مطواعاً كالعجينة"، بحسب ما يشرح.
ويضيف "يمكن أن أسمّكها أو أن أجعلها أقل سماكة. أتحكم بتصميمها وحجمها". وتستغرق صناعتها ساعة ونصف ساعة أو أكثر بقليل، "وبقدر ما أخصص لها وقتاً، تكون أجمل" على ما يؤكد.
ويراوح لون اللبّادات بين الأبيض المكسور والرمادي وتموّجات الاسود وتدرجات البنيّ.
ومع أن "كثرة استعمال الصابون والماء تُسبّب جفاف اليدين واحمرارهما وتشققاتٍ بارزة في راحتيهما وأصابعهما"، لا يستخدم الحرفيّ الشغوف قفازات خلال عمله، بل يجد متعةً في إنجاز هذه القبعات التراثية لأن "فيها فناً واحساساً".
ويقول "أشعر بالمادة التي أعمل بها، وبكل حبة تراب أو شوكة تكون ممزوجة بالصوف. والعمل اليدوي مختلف عن العمل على الآلة "، مشيراً إلى أنه يستطيع أن يصنع "ثلاث لبّادات على الأكثر في يوم واحد".
وبعدما لمس ابن حراجل تراجعاً في الطلب على اللبادة، حاول أن يطورها بابتكار موديلات عصرية وقبعات بأشكال مختلفة تواكب متطلبات السوق. وباتت لديه تشكيلة من القبعات والنعال والمسابح المصنوعة من "اللباد".
وزبائنه سياح أو أشخاص تذكّرهم اللبادة بطفولتهم، والبعض يضعها كقطعة في منزله من التراث اللبناني. ويشتريها الزائر من المحال التي تعنى ببيع المنتجات الحرفية ومن المعارض الموسمية، وسعرها 25 دولاراً.
ولا يعوّل يوسف، وهو أب لطفلة، على بيع اللبّادات كمورد رزق وحيد في ظل الوضع الاقتصادي الصعب في لبنان راهناً. ويقول "الحرفي يحتاج إلى رعاية. ينبغي على الدولة أن تؤمن لنا أسواقاً ومعارض".
ويحرص يوسف، كما يزرع أرضه، على أن يزرع الشغف بهذه الحرفة لدى أولاد شقيقه، كي لا يطويها النسيان.