المصدر: Kataeb.org
الكاتب: لارا سعادة
الاثنين 27 تشرين الأول 2025 07:14:37
قراءة قانونية في اقتراح يُنهي عصر الاحتكار ويفتح باب المساءلة
بقلم المحامية لارا سعادة
في خطوة قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكنها تحمل في طياتها تحّولاً جذرياً في مقاربة الدولة اللبنانية للحوكمة المصرفية، وافق مجلس الوزراء في 23 تشرين الأول 2025 على اقتراح قانون يقدّمه النائب سامي الجميّل منذ أيار 2023، يرمي إلى تعديل المادة 18 من قانون النقد والتسليف، بحيث يُصبح تجديد ولاية حاكم مصرف لبنان ونوابه محصورة بمرة واحدة فقط.
هذا التعديل، الذي قد يبدو تقنياً وإجرائياً، يحمل في الواقع انعكاسات دستورية وسياسية عميقة، ويطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة السلطة النقدية في لبنان، ومدى استقلاليتها، وآليات محاسبتها، ومساءلة من يتولى إدارتها.
من تاريخ الحوكمة النقدية: عندما تتحول السلطة إلى احتكار
لفهم أهمية هذا الاقتراح، لا بد من العودة إلى السياق التاريخي الذي ولّده. فمنذ صدور قانون النقد والتسليف عام 1963، لم يضع المشرّع اللبناني أي حد أقصى لعدد مرات تجديد ولاية حاكم المصرف المركزي. كل ما نصّ عليه القانون هو أن الولاية مدتها ست سنوات، قابلة للتجديد بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المالية.
هذا الفراغ التشريعي، أو بالأحرى هذا "الإطلاق" القانوني، سمح بظاهرة استثنائية في تاريخ البنوك المركزية: بقاء الحاكم رياض سلامة في منصبه لمدة ثلاث عقود متواصلة (1993-2023)، وهي مدة تفوق عمر جيلٍ كامل من اللبنانيين. خلال هذه الفترة، تحوّل مصرف لبنان من مؤسسة نقدية إلى ما يشبه "دولة داخل الدولة"، بسلطة شبه مطلقة، وقرارات نافذة خارج أي رقابة فعّالة.
وإذا كانت السنوات الأولى من حكم سلامة قد شهدت استقراراً نسبياً، فإن العقدين الأخيرين كشفا خطورة هذا التركّز المفرط للسلطة. الهندسات المالية التي أدّت إلى تبخّر أكثر من 70 مليار دولار من ودائع اللبنانيين، والسياسات النقدية التي أوصلت الليرة إلى الانهيار، والملفات القضائية المتراكمة ضد الحاكم في لبنان وأوروبا، كلها شواهد على ما يمكن أن تؤدي إليه السلطة المطلقة غير الخاضعة لآليات محاسبة فعّالة.
في هذا السياق، يأتي اقتراح النائب سامي الجميّل كتتويج لموقف ثابت ومبدئي اتخذه منذ سنوات. فالجميّل كان من الأصوات القليلة التي وقفت بوجه سياسات مصرف لبنان السابقة، وحذّر مراراً وتكراراً من مخاطر الهندسات المالية التي كان يعتمدها الحاكم السابق رياض سلامة. وفي الوقت الذي كان فيه الكثيرون يمتدحون "عبقرية" الحاكم المالية، كان الجميّل يدق ناقوس الخطر محذراً من الانهيار النقدي والمصرفي الذي بات وشيكاً. اليوم، وبعد أن أثبتت الأحداث صحة تحذيراته، يأتي هذا الاقتراح القانوني ليضع الأطر المؤسساتية التي تمنع تكرار هذه الكارثة في المستقبل.
البعد الدستوري: بين الاستقلالية والمساءلة
من الناحية القانونية والدستورية، يطرح اقتراح الجميّل معضلة كلاسيكية في علم الحوكمة: كيف نوفّق بين استقلالية البنك المركزي، وهي شرط أساسي لفعالية السياسة النقدية، وبين ضرورة مساءلة من يديره؟
فالمعايير الدولية الحديثة تُجمع على أن البنوك المركزية يجب أن تتمتع باستقلالية تامة عن السلطة التنفيذية في رسم السياسات النقدية، لكي لا تُستخدم السياسة النقدية لأغراض سياسية قصيرة الأمد. لكن هذه الاستقلالية لا يمكن أن تعني الحصانة من المساءلة. بل على العكس، كلما زادت استقلالية مؤسسة ما، وجب أن تتعزّز آليات محاسبتها.
وهنا يأتي دور تحديد مدة الولاية. فالتحديد الزمني ليس انتقاصاً من الاستقلالية، بل هو آلية لضمان تداول السلطة ومنع احتكارها. إنه توازن دقيق بين ثلاثة مبادئ دستورية أساسية:
١. مبدأ فصل السلطات: حين يبقى شخص واحد في موقع السلطة النقدية لعقود، فإن هذه السلطة تتضخم وتصبح بمثابة "سلطة رابعة" خارج إطار التوازن الدستوري. تحديد الولاية يُعيد هذا التوازن ويمنع تمركز السلطة.
٢. مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص: حين يُحتكر منصب حساس لفترات طويلة، تُحرم كفاءات أخرى من فرصة الوصول إليه، ويتحول المنصب إلى "احتكار" لفرد أو لمجموعة محددة. التحديد يفتح الباب أمام تداول حقيقي للمناصب.
٣. مبدأ المساءلة والشفافية: التجديد الدوري يجعل من كل فترة تجديد محطة تقييم وحساب، يُراجع فيها أداء الحاكم ويُقرر ما إذا كان يستحق الاستمرار أم لا.
التحليل القانوني للنص المقترح: البساطة في خدمة الفعالية
من الناحية التقنية، يتميّز الاقتراح بالبساطة والوضوح والمباشرة. يضيف إلى المادة 18 من قانون النقد والتسليف عبارة واحدة حاسمة: "تكون ولاية الحاكم ونواب الحاكم قابلة للتجديد مرة واحدة فقط لمدّة مماثلة."
هذه البساطة في الصياغة هي ميزة استراتيجية وقوة قانونية. فالنص واضح لا لبس فيه، ولا يترك مجالاً للتأويلات أو الالتفاف. الحاكم يُعيَّن لست سنوات، يمكن تجديد ولايته مرة واحدة فقط، أي بحد أقصى 12 عاماً. نائب الحاكم يُعيَّن لخمس سنوات، يمكن تجديد ولايته مرة واحدة فقط، أي بحد أقصى 10 سنوات. بعدها، يجب أن يأتي شخص آخر.
المقارنة مع التجارب الدولية: لبنان يلحق بالركب متأخراً
إذا نظرنا إلى التجارب المقارنة، نجد أن تحديد ولاية حكّام أو محافظي البنوك المركزية هو القاعدة وليس الاستثناء في الأنظمة الديمقراطية المتقدمة:
إذاً، لبنان لا يخترع العجلة، بل يعود إلى المعايير الدولية بعد عقود من الاستثناء. والمفارقة أن هذا "الاستثناء" اللبناني لم يكن مقصوداً في الأصل. المشرّع اللبناني عام 1963 لم يضع حداً أقصى ليس لأنه أراد ولايات مطلقة، بل ربما لأنه افترض أن تداول السلطة سيحصل تلقائياً ضمن الممارسة السياسية السليمة. لكن الواقع أثبت العكس، والقانون يجب أن يتدخل حيث تفشل الممارسة.
ما وراء النص: بناء منظومة إصلاح شاملة
اقتراح قانون حصر تجديد ولاية حاكم مصرف لبنان هو خطوة إصلاحية إيجابية، تأتي في الوقت المناسب لإعادة بناء الثقة بالمؤسسات المالية والنقدية اللبنانية. إنها تعبير واضح عن إرادة القطع مع ممارسات الماضي التي أدّت إلى تركّز السلطة النقدية وغياب المحاسبة، وخطوة جريئة نحو حوكمة رشيدة وشفافة.
من الناحية القانونية، النص يتماشى مع المعايير الدولية، ويضع لبنان في مصاف الدول التي تعتمد أفضل الممارسات في الحوكمة النقدية.
هذا الاقتراح يضع حجر الأساس لإصلاح حقيقي، ويفتح الباب أمام إصلاحات أخرى مكملة. فتحديد الولاية الزمنية هو نقطة الانطلاق نحو حوكمة رشيدة، ويضع لبنان في مصاف الدول التي تعتمد أفضل الممارسات في الحوكمة النقدية. لكن يجب أن يُستتبع بخطوات إصلاحية أخرى لتكتمل منظومة الإصلاح النقدي والمصرفي في لبنان. فالإصلاح الشامل يتطلب مسيرة متكاملة تبدأ بهذا القانون ولا تنتهي عنده. من الخطوات الضرورية:
موافقة مجلس الوزراء على هذا الاقتراح تشكل إشارة إيجابية للغاية على جدية الإصلاح. الكرة الآن في ملعب مجلس النواب. واللبنانيون ينتظرون، بأمل متجدد أن يُسارع إلى إقراره ليكون نقطة انطلاق فعلية لمسيرة إصلاح شاملة. هذا القانون ليس مجرد نص تشريعي، بل هو رسالة واضحة أن احتكار السلطة إلى الأبد لن يعود مقبولاً، وأن المحاسبة ليست مجرد شعار، بل ممارسة دستورية وقانونية ملزمة. هذه هي اللحظة التاريخية التي ينتظرها اللبنانيون لرؤية إصلاح حقيقي يُترجَم من الورق إلى الواقع، ومؤسسات قوية وشفافة قادرة على حماية مصالحهم واستعادة ثقتهم.
الطريق لا يزال طويلاً، لكن هذا الاقتراح يضع لبنان على بداية الطريق الصحيح.