تأتي الزيارة المرتقبة للبابا إلى لبنان في لحظة سياسية وأمنية شديدة الحساسية، إذ يعيش البلد على وقع تهديدات إسرائيلية متواصلة، وقلق داخلي من انفلات الأوضاع، وتوترات حدودية مفتوحة على احتمالات متعددة. وبينما ترتفع أصوات محلية ودولية تدعو إلى تأجيل الزيارة حرصاً على سلامة البابا وصورة لبنان الأمنية، يصرّ الفاتيكان على إتمامها في موعدها، ما يطرح تساؤلات حول الرسائل العميقة التي تحملها هذه الخطوة.
تاريخياً، شكّل الفاتيكان داعماً ثابتاً لفكرة لبنان بوصفه نموذجاً للتعايش بين مكوّناته الدينية. وفي هذا السياق، تعكس الزيارة رغبة واضحة في التأكيد أن لبنان ما يزال يشكّل قيمة رمزية وسياسية وروحية عالمية. إنها محاولة لإبقائه حاضراً على خريطة الاهتمام الدولي، في زمن تتراجع فيه أولويات العالم تجاه أزماته المستمرة.
وتحمل الزيارة أيضاً بُعداً رمزياً يتمثل في إعادة تثبيت صورة لبنان كمساحة للتلاقي الروحي رغم الانهيارات والتهديدات المحيطة. هذا البُعد يُعتبر جزءاً من سياسة الفاتيكان الناعمة الهادفة إلى منع عزل لبنان أو تركه ينحدر نحو انهيار كامل.
وعلى الرغم من التهديدات الإسرائيلية، يحمل إصرار البابا على المجيء رسالة واضحة برفض تحويل لبنان إلى ساحة خاضعة لابتزاز أمني أو سياسي. ويقدّم الفاتيكان من خلال هذا الموقف إشارة مزدوجة:
• لإسرائيل: أن الضغط والتهديد لن ينجحا في فرض تراجع دولي عن دعم لبنان.
• للمجتمع الدولي: أن المنطقة لا يمكن تركها دون حضور معنوي وسياسي من القوى الروحية الكبرى.
كما يمكن قراءة الزيارة على أنها تحدٍّ لفكرة «الخطر المطلق»، إذ تسعى لتذكير الأطراف المتصارعة بأن للبنان مكانة محمية معنوياً، ولو رمزياً.
داخلياً، تأتي الزيارة في وقت يعيش فيه المسيحيون في لبنان هواجس حقيقية حول مستقبل دورهم السياسي والاجتماعي. وهي، وإن لم تكن موجهة إليهم فقط، تحمل لهم تطميناً بأن المجتمع الدولي لم يتخلَّ عنهم ولا عن الشراكة الوطنية التي تميّز النموذج اللبناني. وفي الوقت نفسه، يوجّه البابا رسالة إلى جميع الأطراف اللبنانية مفادها أن الاستقرار ليس خياراً فئوياً بل مسؤولية وطنية مشتركة، وهي الرسالة التي يكررها الفاتيكان عادة عندما يشعر بارتفاع منسوب الانقسام الداخلي.
ولا يمكن فصل الزيارة عن حسابات المنطقة الأوسع. فبعد سنوات من صراع النفوذ بين القوى الإقليمية، يحرص الفاتيكان على الحضور لتذكير الجميع بأن لبنان ليس مساحة سائبة أو متروكة. وتأتي الزيارة في ظل مسار دولي يحاول تجنّب توسّع التوتر في المنطقة، ما يجعلها بمثابة عامل ضغط معنوي باتجاه التهدئة، وإشارة إلى أن استقرار لبنان جزء من استقرار الشرق الأوسط.
وعلى المستوى الدولي، تعيد الزيارة تسليط الضوء على لبنان في وقت يغيب فيه عن سلّم الأولويات العالمية. فهي دعوة لعدم تركه يواجه مصيره منفرداً، وتأكيد من الفاتيكان على أن أزماته ليست شأناً محلياً صرفاً، بل جزء من معادلة عالمية تتصل بالتنوّع الديني والهجرة والأمن الإقليمي.
ليست زيارة البابا حدثاً بروتوكولياً أو دينياً فحسب؛ فهي في توقيتها خطوة سياسية بامتياز تحمل رسائل للداخل والخارج، وللخصوم والحلفاء، وللقوى الكبرى والإقليمية على حد سواء. أما رسالتها الأعمق، فهي أن لبنان، رغم أزماته، ما يزال يمتلك وزناً معنوياً وروحياً يجعله موضع اهتمام ورعاية دولية. وإذا كان البلد قد تراجعت صورته ومكانته، فإن هذه الزيارة تأتي لتذكير اللبنانيين والعالم بأنه لم يسقط بعد، ولن يُترك ليسقط.