خاص Kataeb.org: الخامس من تموز 1976 شكا وحامات معلقتان على صليب لبنان

أما بلدة شكا التي إستمر مطر القذائف والرصاص يغطي أرضها وسماءها لليوم الثاني، فقد أصبحت في حالة مأساوية. عسكرياً بدأت الذخائر بالنفاد ولم يعد في مدفعي الهاون المركّزين في ملعب دير الرهبان سوى بضع طلقات، والمقاتلون القلائل أصبحوا في حالٍ يرثى لها بعد أكثر من 36 ساعة من القتال الشرس ونفدت ذخائرهم، ولم يبق أمامهم سوى القتال بالسلاح الأبيض.

 

على الصعيد الإنساني، أصبح الجريح ينزف حتى الموت، والجثث التي بدأت تهترئ كانت تملأ الشوارع والمنازل، فيما تأمين الخبز والطعام من المنازل إلى مراكز تجمع الأهالي أصبح شبه مستحيل. لكن معنويات الأهالي والمقاتلين كانت قوية، وجهاز اللاسلكي في مركز دير الرهبان هو صلة الوصل الوحيدة بين شكا والعالم، وعبر هذا الجهاز راح قادة الجبهة اللبنانية يحثون الأهالي على الصمود قليلاً لحين الوصول إليهم.

 

حوالي الساعة الثانية ظهراً وصل الشيخ أمين الجميل إلى النفق يرافقه القاضي أسعد جرمانوس ورئيس إقليم جبيل الكتائبي غيث خوري، فتحدث مع العقيد فيكتور خوري وداني شمعون المتواجدين داخل النفق، وكانت غزارة القصف تمنع المقاتلين من الخروج منه. لحظة واندفع خارجاً على رأس المقاتلين ووجهتهم شكا.

 

في هذا الوقت وصل الشيخ بيار الجميل إلى البترون وإلتقى في غرفة العمليات العسكرية الآباتي شربل قسيس والدكتور جورج سعاده والشيخ بطرس حرب، وعدداً من القيادات العسكرية وتفقد بلدة حامات برفقة الدكتور جورج سعاده والشيخ بطرس حرب، ووصلوا إلى دير سيدة النورية رغم خطورة الوضع وراقبوا بالمنظار بلدة شكا المنتظرة تحريرها.

تحت غطاء كثيف من القصف المدفعي بدأ مقاتلو تنظيمات القوات اللبنانية الموحدة الذين يعصبون رؤوسهم بشرائط زرقاء تقدمهم خارج النفق ببطء شديد، وحوالي الساعة الثالثة بعد الظهر وصلت القوات اللبنانية الموحدة إلى المفرق المؤدي إلى بلدات القويطع داخل بلدة الهري، وأكملت إلى شركة الترابة.

 

تابع الشيخ أمين الجميل قيادة الهجوم بنفسه، ونحو الساعة الرابعة وصلت القوات اللبنانية الموحدة إلى أمام منزل الراهب اللبناني الأب أنطوان كرم على مدخل بلدة شكا الجنوبي، وبسبب كثافة القصف الذي يتعرضون له من بلدة كفرحزير لم يتمكن الشيخ أمين الجميل ومرافقيه من إكمال طريقهم إلى دير الرهبان بالآليات فتابعوا الطريق ركضاً تحت وابل من القصف العنيف.

 

قرابة الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر الثلاثاء 6 تموز 1976 بدأت القوات القادمة من مدينة البترون بالدخول إلى باحات دير الرهبان، وكان الشيخ أمين الجميل أول الداخلين إلى ساحة الدير عبر الفجوة الصغيرة التي فتحت في سور المدرسة لجهة الجنوب يرافقه عدد من أبناء شكا الذين صودف وجودهم خارج البلدة يوم الهجوم، من بينهم الضابطان أنطوان عبّود وبردليان طربيه.

 

أزاح تدفق مقاتلي القوات اللبنانية الموحدة كابوس الرعب والخوف المميت، وأعاد العزيمة والقوة إلى المقاتلين الصامدين في شكا.

أما على خط بلدة كفريا، فمع تقدم المقاتلين من النفق، إنطلقت مجموعات من البلدة نزولاً إلى شكا وإنضمت عند مفرق الجاجي إلى المتقدمين من الهري.

 

على جبهة قرى وبلدات قضاء الكورة، فبحسب الخطة التي وضعت في إجتماع عين عكرين إنطلقت حوالي الساعة الرابعة من فجر الثلاثاء 6 تموز 1976 ثلاث مجموعات لتحريرها من ثلاث محاور:

- المحور الأول من بلدة عين عكرين – خان بزيزا باتجاه دير مار جرجس الكفر - ثانوية اميون الرسمية، واستلمته قوات العائلات البشراوية.

- المحور الثاني من بلدة كفرعقا باتجاه سرايا اميون وكفرحزير، واستلمته القوات الكتائبية بقيادة سمير جعجع.

- المحور الثالث من بلدة بصرما باتجاه بلدات: عابا – بطرام – أميون، واستلمته قوات العائلات الزغرتاوية.

 

حوالي الساعة السادسة صباحاً سقط القلع على مدخل بلدة اميون ناحية الشرق في يد القوات البشراوية وتقدمت باتجاه دير مار جرجس الذي سقط قرابة الساعة العاشرة قبل الظهر، وتابعت تقدمها نحو الثانوية الرسمية حيث مركز قيادة القوات الفلسطينية التي سقطت أيضاً حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، ثم تابعت تحرير مجمل القسم الجنوبي الشرقي لبلدة أميون.

 

في نفس الوقت تقدمت القوات الكتائبية في القسم الشمالي من أميون، وقرابة الظهر سيطرة على سرايا أميون وبدأت تمشيط الأحياء المجاورة، وقبل المغيب إلتقت بالقوات البشراوية.

 

بالتقاء القوات البشراوية والكتائبية بدأ الإندفاع المشترك ناحية القسم الغربي المتبقي من أميون، الذي تمت السيطرة النهائية عليه قبل حلول الظلام.

أما على المحور الثالث فحوالي الساعة الثامنة صباحاً سيطرة القوات الزغرتاوية على مفرق عابا وأكملت نحو بلدة بطرام التي دخلتها قرابة الظهر وتابعت تقدمها للإلتقاء بالقوات اللبنانية الموحدة في بلدة اميون.

 

ومن بلدة دار بعشتار إنطلقت صباحاً مجموعات من القوات اللبنانية الموحدة ودخلت حوالي الساعة التاسعة صباحاً بلدة دار بشمزين، وإنضمت ظهراً إلى المجموعات البشراوية والكتائبية المتقدمة في أحياء بلدة أميون.

 

في محاولة لتخفيف الضغط عن القوات الفلسطينية في شكا والكورة، تم إعادة إشعال جبهة مجدليا المواجهة لطرابلس، لكن المقاتلين الزغرتاويين المدافعين عن منطقتهم ورغم قلة عددهم، لجهة أن معظمهم توجهوا إلى جبهة الكورة، صمدوا في متاريسهم.

على الصعيد السياسي فقد حمل التصعيد العسكري كل الأطراف على إلتزام المزيد من التصلب في المواقف السياسية، فقد عقدت الجبهة اللبنانية إجتماعاً في مقر الرئيس فرنجية في الكفور، وبعد الإجتماع صرّح الرئيس كميل شمعون أن لا طاولة مستديرة مع الوجود الفلسطيني المسلّح وتحت وطأة الإرهاب، وأن الجبهة اللبنانية ما تزال تؤيد المبادرة السورية، وإعتبر أن مساعي الجامعة العربية لم تعط حتى الآن النتائج المرجوة. أما الشيخ بيار الجميّل فقد حمل بعد اللقاء بشدة على إستمرار إستدراج الفلسطينيين في معارك لبنان، وقال أن الإعتداء الذي تتعرض له شكا حالياً هو مثل كل الإعتداءات البربرية التي شهدتها الساحة اللبنانية منذ 15 شهراً، ولو وظفت القيادة الفلسطينية طاقاتها والأموال التي تغدق عليها من الدول العربية، باتجاه معركة تحرير فلسطين لا تحرير لبنان الشقيق، لأحرز الفلسطينيون إنتصارات كبرى على عدوهم الرئيسي، وختم أن المعركة اليوم لم تعد معركة إسرائيلية – عربية بل معركة لبنانية – فلسطينية.

 

حلّ ليل 6 تموز وأكثر من نصف شكا ما يزال محتلاً، ورغم القصف الذي يتعرضون له راح مقاتلو القوات اللبنانية الموحدة يدعّمون مواقعهم، بعد أن بدأت التعزيزات العسكرية تصل من البترون مستفيدة من الظلمة، وإستمرت الإستعدادت طوال الليل لإكمال الهجوم، فيما بدأ نقل الجرحى والمصابين من شكا إلى مستشفيات المنطقة الشرقية.

قرابة الساعة الخامسة من فجر الأربعاء 7 تموز 1976 شنت القوات اللبنانية الموحدة من مركز الرهبان في شكا هجوماً شاملاً لتحرير ما تبقى من البلدة، ورغم القصف العنيف الذي راحوا يتعرضون له من مواقع الفلسطينيين في تلال بلدة أنفه وبلدة كفرحزير، تمكن مقاتلو القوات اللبنانية الموحدة قرابة الظهر من رفع العلم اللبناني عند مفرق الأرز، وحوالي الساعة السابعة مساءً دخلوا شركة الترابة الوطنية عند مدخل شكا الشمالي بعد تمشيط السهول المحيطة.

 

أما على محور شكا العتيقة فظلت فلول الفلسطينيين تقاتل مستفيدة من الغطاء المدفعي الكثيف الذي تؤمنه مرابض المدفعية في بلدة كفرحزير حتى حوالي الساعة الثانية ظهراً، حيث إستطاعت القوات اللبنانية الموحدة تحرير كنيسة مار شليطا وبدأت شق طريقها داخل أحياء شكا العتيقة، حيث راح الفلسطينيون يفرون باتجاه بلدة كفرحزير تاركين خلفهم بعض الآليات، ومختطفين عدداً من أبناء شكا العتيقة كرهائن.

 

مع حلول مساء 7 تموز كانت كل أحياء شكا قد استعيدت، وعاد المقاتلون إلى الخنادق التي كانوا يتمركزون فيها ليل 5 تموز.

هذا على الخط العسكري أما على الخط السياسي، فقد وصل صباحاً إلى مدينة البترون الرئيس كميل شمعون وإلتقى الآباتي شربل قسيس، والدكتور جورج سعاده والشيخ بطرس حرب والنائب لويس أبو شرف والعميد جوزف البيطار والعقيد فيكتور خوري وعدداً من القيادات السياسية والعسكرية وتتبع ظروف تحرير شكا والبلدات الكورانية، فيما صدرت عدة بيانات تشرح ظروف ما حصل منذ صباح 5 تموز.

 

عند الظهر أصدرت القيادة الموحدة للقوات اللبنانية أول بيان شامل لها أعلن إستعادة جميع المواقع السابقة وحذر من التعرض للأسرى الذين وقعوا في أيدي القوات الغريبة، وإعتبرت القوات اللبنانية في بيانها منطقة البترون الشمالية الواقعة شمال نهر الجوز منطقة عسكرية يحظر الدخول إليها إلا بإذن خطي من القيادة العسكرية، كما يحظر التجول فيها بالاسلحة إلا للمكلفين بمهمات عسكرية.

 

تحرير بلدة شكا أظهر هول الفاجعة التي حلت بهذه البلدة البترونية، فالحي الذي سقط بأيدي الغرباء أبيد بأكمله ورائحة الموت تنتشر بين المنازل التي ما تزال تحترق والمرتفعات المطلة عليها فقدت إخضرارها، وقد أذهلت هذه المناظر كل من شاهدها لا سيما مراسلي الوكالات الأجنبية الذين دمعت عيون بعضهم وهم يلتقطون الصور، ولم يختلف المشهد في بلدة حامات عنه في بلدة شكا.

صباح الخميس 8 تموز بدأ الهجوم لتحرير بلدة كفرحزير، وعند الساعة الحادية عشرة إلتقت في ساحة البلدة، القوات المندفعة من أعالي الكورة بالقوات الصاعدة من شكا والقادمة من بلدة كفرحاتا في القويطع الكوراني، وأصبحت طريق: شكا - كفرحزير- اميون – كفرعقا - كوسبا - عين عكرين - اهدن - بشري - الأرز - دير الأحمر سالكة لأول مرة منذ بداية الحرب اللبنانية.

 

أما في شكا المنكوبة فبدأ أهلها يلملمون جراحهم، ودفنوا شهداءهم الذين بقوا في أماكن إستشهادهم لأكثر من ثلاثة أيام، علماً أن بعضهم نكل بجثامينهم، فتم تشييعهم في سرعة وأعيدوا إلى تراب بلدتهم. كما بدأ الأهالي بازالة الدمار ورفع أنقاض المنازل التي دمّرت.

 

عند الظهر عقد نائب البترون الدكتور جورج سعاده مؤتمراً صحافياً في مقر قيادة القوات اللبنانية الموحدة في شكا المحررة حضره عدد من المراسلين الأجانب، شرح خلاله تفصيلياً ما حصل في شكا منذ بداية الأحداث اللبنانية وصولاً إلى يوم 5 تموز المشؤوم، شارحاً هول المأساة الفاجعة التي تعرضت لها شكا وحامات وحجم الخسائر التي تكبدتها البلدتان. وبعد المؤتمر الصحافي عرض على الصحافيين بعض الغنائم التي تركها المهاجمون في أرض المعركة بينها: 3 ملالات أم 113 تعود أصلاً للجيش اللبناني، دبابتا إم 41 تعود أصلاً للجيش اللبناني، سبع جيبات عسكرية تحمل رشاشات دوشكا، مدفعٌ مضادٌ عيار 23، مدفعان مضادان من عيار 14.5 محمولان على شاحنتي مرسيدس، دبابة شاريوتر تعود أصلاً للجيش اللبناني، مدفع 106 مركّز على سيارة جيب، إضافة إلى كمية كبيرة من الأسلحة الخفيفة وقاذفات الأر بي جي والذخائر. ومن ثم قام الصحافيون بجولة في أحياء شكا المدمرة والمحروقة.

 

وعقد السيد إنعام رعد رئيس الحزب السوري القومي الإجتماعي مؤتمراً صحافياً في مركز الحزب الرئيسي في بيروت الغربية أعلن خلاله سقوط بلدتي أميون وبطرام في يد القوى الإنعزالية بعد أن قاتل فيها القوميون حتى آخر بيت وشهيد، شارحاً ظروف ما حصل في الشمال منذ إندلاع الحرب اللبنانية، موضحاً أنه لم يكن وارداً في حسابات الحزب شن أي هجوم من الكورة، لأن مجرد صمود الكورة في وجه أكثر من نصف إنعزاليي لبنان المتفوقين عدداً وسلاحاً، على جبهة طولها أكثر من طول جبهة لبنان مع إسرائيل، وفي وجه قوى بشري، زغرتا والبترون مجتمعة، هو إنتصار بحد ذاته. وتابع: عندما قضت الخطة المشتركة بأن تفتح جبهة ثانية في الشمال لم يتردد الحزب لحظة واحدة من أن يكون طليعة القوات المشتركة. وختم مؤتمره الصحافي معلناً أن أميون ليست أغلى من مخيم تل الزعتر الفلسطيني، كما أن كل مخيم فلسطيني هو عزيز على قلوبنا ونفوسنا كمساقط رؤوسنا في جبل لبنان.

 

وأصدر لواء المقدمين ولواء قاديشا التابعان لمنطقة بشري بيانين شاملين مفصّلين شرحا فيهما ظروف تحرير بلدات الكورة من الأغراب، معاهدين على الإستمرار في النضال لتحرير كل لبنان.

 

تابعت القوات اللبنانية الموحدة صباح الجمعة 9 تموز 1976 تحرير بلدات الكورة ودخلت إلى عفصديق وبشمزين ووصلت ظهراً إلى ساحة بلدة فيع، لكنها تعرضت لخديعة فانسحبت إلى خارج البلدة.

 

صباح السبت 10 تموز 1976 دخلت القوات اللبنانية الموحدة مجدداً إلى فيع، وأكملت إلى بترومين ودده، فيما هبطت مجموعة إلى قلحات ودير البلمند وإستقبلها رئيس الدير الأب يوحنا منصور وعدد من الرهبان وتم تركيز موقع كبير.

في نفس الوقت تقدمت مجموعة من القوات اللبنانية الموحدة من مفرق بلدة عابا باتجاه بلدات: بتوراتيج - كفرقاهل – النخلة - السامرية، وقبل غياب الشمس كانت تمركزت في بلدة راس مسقا ووصلت إلى بلدة ضهر العين، ولم تعد أطراف مدينة طرابلس تبعد سوى مئات الأمتار.

 

هكذا راحت جميع بلدات قضاء الكورة تتساقط تباعاً في أيدي القوات اللبنانية الموحدة، وسط ترحيب الأهالي بعدما هرب المقاتلون الأغراب منها.

 

صباح الإثنين 12 تموز 1976 إندفعت القوات اللبنانية الموحدة من شكا باتجاه بلدة انفه، التي سقطت خلال ساعات معدودة بعد أن هرب منها الأغراب، وقبل المساء كانت القوات اللبنانية الموحدة وصلت إلى مدخل بلدة القلمون الجنوبي حيث توقفت. أما سبب توقف القوات اللبنانية فيعود إلى أن رئيس بلدية القلمون الشيخ عبد الرحيم المحمد كان في 10 تموز وصل بحراً إلى ميناء البترون يرافقه المونسنيور أنطوان دهمان النائب العام على أبرشية طرابلس المارونية، والتقيا العقيد فيكتور خوري والدكتور جورج سعاده والشيخ بطرس حرب، وخلال اللقاء طلب الشيخ عبد الرحيم المحمد أن تتوقف القوات اللبنانية عند مدخل القلمون الجنوبي وإعتبارها بلدة مفتوحة، فوافق العقيد خوري والدكتور جورج سعاده والشيخ بطرس حرب مبدئياً، لكنهم استمهلوا لأخذ موافقة الجبهة اللبنانية، لأن قضية بهذه الأهمية تتطلّب موافقة شاملة من الجبهة اللبنانية. وبالفعل بعد التشاور أعلن الرئيس فرنجية والرئيس شمعون والشيخ بيار الجميل موافقتهم على الاقتراح، خاصة وأن رئيس بلدية القلمون كان موضع إحترام وتقدير لدى جميع القيادات المذكورة. لكن هذه الاتصالات لم تفلح في ردع المقاتلين من دخول القلمون بعد أن تهجّر سكانها إلى طرابلس، وعبثوا بممتلكاتها.

 

على أثر إنتهاء المعارك في قرى وبلدات الكورة، عاد العديد من المهجّرين إلى قراهم الكورانية، ونشطت الحركة، وعاد الأهالي إلى ممارسة أعمالهم العادية، بعيداً عن خطوط الجبهة. وأصبح المواطن اللبناني قادراً على الوصول إلى بلدته الشمالية عبر أقرب وأقصر طريق، بدل الطرق الوعرة التي كان يسلكها سابقاً في جرود البترون وبشري، وكان قد سقط نحو عشرين مواطناً من منطقتي زغرتا وبشري على طريق الكورة خلال مغامرتهم بالعبور عليها في فترة السيطرة الفلسطينية، وعاد التلاحم الطبيعي بين أقضية: البترون، زغرتا، الكورة، بشري ومنطقة دير الأحمر إلى حالته المعهودة، وأصبحت هذه الطريق أحد المعبرين اللذين يربطان مرفأ جونية بالبقاع والداخل العربي، إضافة إلى طريق عيون السيمان - رياق، وغدت لاحقاً تضج بالسيارات والشاحنات ونشطت الحركة التجارية على جوانبها التي راحت تبيع مختلف الحاجيات.

 

لكن تصرفات غير مسؤولة حصلت في القرى الكورانية بعد تحريرها، تمثلت بسرقات عديدة للمحال والمنازل، أثرت كثيراً على الوضع العام في قضاء الكورة. وقد عملت القيادات الروحية وقيادات الجبهة اللبنانية ونائبا المنطقة فؤاد غصن وباخوس حكيم على محاولة وقف ما يحصل من سرقات وتجاوزات وتعديات على الممتلكات، وطمأنة الأهالي الذين غادروا إلى طرابلس للعودة إلى قراهم في أسرع وقت. ولطمأنة الأهالي جال راعي أبرشية طرابلس والكورة لطائفة الروم الأرثوذكس المطران الياس قربان على معظم قرى الكورة مشدداً على بقاء الجميع في أرضهم وعودة من ترك بلدته. كما أدت عمليات السرقة الى حوادث فردية بين بعض العصابات أوقعت عدد من القتلى والجرحى، إستتبعت بجرائم ثأرية جهدت قيادات الجبهة اللبنانية على تطويق مضاعفاتها.

في تحليل لما جرى في 5 تموز 1976 والأيام التي تلت، تبين أن الجيش اللبناني رغم الإنقسامات التي حلت فيه، ظلت لديه القدرة على التحرك، خاصة من قبل الضباط الذين خططوا وقادوا الهجوم المضاد، الذي حقق نتائج باهرة في حسم العمليات العسكرية في سرعة قياسية، كما تبين أن القوات اللبنانية الموحدة أثبتت قدرة فائقة على إستنفار قوات الاحتياط في البلدات والقرى التي هبّت بالآلاف عند قرع أجراس الكنائس، وقدرة على التحرك العسكري والتنسيق الميداني بين جميع فصائلها، حيث إستطاعت في فترة لا تتجاوز الخمسة أيام أن تحرر بلدات قضاء الكورة، لتصل إلى تخوم مدينة طرابلس. ومن النتائج العسكرية الأخرى إنحسار المواجهة الجديدة إلى مسافة قصيرة إذا ما قورنت بامتداد خطوط الجبهة قبل 5 تموز، فأصبح خط انتشار القوات اللبنانية الموحدة من شاطئ القلمون صعوداً إلى مجدليا وطريق الضنية لا يتجاوز بضعة كيلومترات، في حين أنه كان يبلغ عشرات الكيلومترات على إمتداد جرود وسواحل أقضية: البترون والكورة وزغرتا، كما عادت معامل شكا للانتاج بصورة طبيعية، ما شكل طاقة معنوية ومادية داعمة لصمود المناطق اللبنانية المحرّرة.

 

تبقى إشارة يجب التوقف عندها رواها أحد قياديي حزب الكتائب اللبنانية الذي أخبر أنه على أثر توقف حرب السنتين إلتقى الزعيم كمال جنبلاط قبل إستشهاده بأسابيع قليلة في جلسة خاصة إستُعرِضَت خلالها جميع مراحل الحرب. خلال اللقاء صرّح الزعيم كمال جنبلاط أنهم كانوا يعولون كثيراً على نتائج معركة شكا التي جرت في 5 تموز 1976 وأضاف القيادي الكتائبي نقلاً عن الزعيم كمال جنبلاط: عندما تم رد الهجوم وعلمنا أن الشيخ أمين الجميل كان قائد الهجوم المضاد، حقدنا عليه، ولكن بعد فترة تبين لنا أنه لو تم إنتصار القوات الفلسطينية في شكا ووصلت وحداتهم العسكرية إلى البترون وجبيل، لكانت الأمور أفلتت نهائياً من أيدينا وأصبحنا تحت السيطرة الفلسطينية المطلقة. ويختم القيادي الكتائبي أن الزعيم كمال جنبلاط ختم حديثه معه قائلاً: لا أدري إن كنا اليوم يجب أن نشكر الشيخ أمين الجميل على إفشاله الهجوم على بلدة شكا.

الكاتب نبيل حنا يوسف (الجزء الثاني)

لقراءة الجزء الاول، اضغط هنا