خطّابة أونلاين في لبنان: الزواج كصفقة اجتماعية

في لبنان، لم يكن الزواج يوماً مجرد علاقة عاطفية بين شاب وفتاة. كان دائماً شبكة اجتماعية متشابكة تصنعها العائلات، وتتحكم بها الأعراف، وتوازن بين النسب والسمعة والطبقة والثقافة. 

في القرى، كانت الأم بمثابة "الرادار"، ترصد سمعة الفتاة وأخلاقها، وتتأكد من مهاراتها المنزلية وقدرتها على إدارة بيت. أما في بيروت، فقد أضيف معيار جديد: المستوى التعليمي والثقافي، بوصفه بطاقة دخول إلى "نادي المدينة". 

الزواج مع الزمن

قبل عقود، كان المشهد واضحاً: الرقص في الأعراس وسيلة لجذب الانتباه، سؤال المختار يفتح باب التعرف إلى عائلة ما، والخطّابة تجوب الأحياء الشعبية تعرض صوراً أو أوصافاً لبنات وشباب في سن الزواج. الوسيط الاجتماعي كان معروفاً، قريباً، يعرف التفاصيل ويضع "العين" قبل اللقاء الرسمي. كل شيء كان يجري ضمن دائرة اجتماعية ضيقة: جارة تراقب، قريبة تنقل الكلام، وزيارة رسمية تبدأ بالمجاملات وتنتهي بالمفاوضات على المهر.

"مكاتب صفقات"

لكن مع تغيّر الأزمنة، تبدّلت الأدوار وتحوّل المشهد. قبل نحو عشر سنوات، ظهرت مكاتب تدير "صفقات" زواج عابرة للحدود بين لبنان وسوريا، خصوصاً في أعقاب الحرب. تحت شعار "الاستقرار والمساعدة"، سُوِّقت زيجات أرامل الشهداء وغيرهنّ، لكن خلف الشعارات كان المال المحرّك الخفي، يحوّل الزواج إلى ما يشبه "بازار منظم" يخضع للعرض والطلب.

خطّابة أونلاين

اليوم، انتقلت القصة برمّتها إلى العالم الافتراضي. لم تعد الخطّابة تطرق الأبواب، ولا الأمهات يحتجن لجارة تنقل السيرة وتتحقق من الطباع. كل شيء صار على منصات التواصل الاجتماعي. صفحات متخصصة في فايسبوك و"إنستغرام" و"تيك توك" تعلن بوضوح "نود إعلامك أن الصفحة مخصصة حالياً فقط لإعلانات الزواج. الإعلان يدوم شهراً قابلاً للتجديد. الصفحة لا تتحمّل مسؤولية شخصية العريس أو العروس". شركات تسويق رقمي، لكن بدلاً من بيع منتجات أو خدمات، تعرض "أشخاصاً" وفق المواصفات المطلوبة.

صار بإمكانك اليوم أن "تطلب عريساً أو عروساً" عبر الإنترنت: تكتب الشروط التي تناسبك، تدفع المبلغ المطلوب، وينشر إعلانك كمنشور ممول يصل إلى جمهور محدّد. وهذا "البزنس" يكبر بسرعة. الطلبات صارت تُعرض على شكل قوائم دقيقة: الطول، العمر، لون البشرة، المستوى التعليمي، الوضع المادي، الطائفة المفضلة… كل شيء مكتوب ومعلن بلا مواربة. تدفع العمولة، ينشر إعلانك، وتتكفل الخوارزميات بإيصاله إلى الفئة المستهدفة. كأننا أمام "مزايدة إلكترونية" على شريك حياة، حيث تختلط الرغبات الفردية بحسابات السوق، ويتحوّل الزواج من طقس اجتماعي معقد إلى خدمة رقمية لها سعر وتعرفة واشتراك.

تطبيقات مواعدة لطوائف معينة

لكن خلف هذه السهولة الظاهرة، تزداد الصعوبة الحقيقية. فالشباب والشابات في لبنان اليوم يواجهون معضلة في إيجاد شريك حياة. ليست المشكلة محصورة بالوضع الاقتصادي الخانق أو موجات الهجرة التي قلّصت الخيارات، بل أيضاً نتيجة تبدّل المعايير. صار من السهل أن يكتب كل فرد لائحة مواصفات لشريك مثالي: الطول، العمر، التعليم، الدخل، وحتى الطائفة… لكن الأصعب أن يجد من يحققها دفعة واحدة. النساء يشكين من "هجرة العرسان" ونُدرة الخيارات "بطّل في رجال"، فيما يواجه الرجال متطلبات مادية واجتماعية تفوق قدراتهم: بيت مستقل، دخل ثابت، تعليم عالٍ، وانتماء طائفي أو مذهبي يناسب العائلة.

وفي ظل هذا التناقض، برزت مفارقة لافتة: في عصر الخوارزميات والإعلانات الممولة، تجددت بعض العادات القديمة، لكن عبر الإنترنت. 

تطبيقات المواعدة

عالمياً، هناك أكثر من 364 مليون شخص يستخدمون تطبيقات المواعدة، والإحصاءات تظهر أن الرجال أكثر عدداً من النساء على هذه المنصات. بعض التطبيقات مصممة لطوائف وأديان محددة، وأخرى تتيح اختيار الطائفة أو الخلفية الثقافية المفضلة. أي أن "الزواج كترتيب اجتماعي" لم ينتهِ، لكنه خرج من مجالس الأمهات والزيارات الرسمية إلى فضاءات افتراضية مضبوطة بالخوارزميات والاشتراكات المدفوعة.

من خطّابة الحي إلى صفحة إلكترونية، تغيّرت الوسائل لكن الجوهر لم يتغيّر كثيراً: الزواج ما زال صفقة اجتماعية، فقط الوسيط تبدّل. لم تعد جارة تطرق الباب، بل "أدمن" يرسل إشعاراً، فيما يظل السؤال معلّقاً: هل وجدت الخوارزميات ما عجزت عنه الأمهات والسمسارات؟