المصدر: المدن
الكاتب: بتول يزبك
الاثنين 17 حزيران 2024 12:49:01
في خطوةٍ وُصفت بـ"الصادمة"، تراجعت حكومة تصريف الأعمال اللّبنانيّة، أواخر الشهر الفائت، عن قرارها المُتعلق بقبول اختصاص المحكمة الجنائيّة الدوليّة بالتحقيق والملاحقة القضائيّة، في الجرائم الّتي ارتكبتها إسرائيل على الأراضي اللّبنانيّة منذ السّابع من تشرين الأوّل الفائت (ضمنًا قتل الصحافيين الثلاثة عصام عبدالله، ربيع المعماري وفرح عمر)، بتاريخ 26 نيسان 2024. وهذا التراجع الذي أثار خضةً في صفوف المتضرّرين من هذه الاعتداءات وذويّ الضحايا، وحثّ عددًا من النواب لمساءلة الحكومة عن أسباب التراجع من دون أي مسوّغ قانونيّ ، يُعزى بصورةٍ مباشرة إلى الهواجس والاعتبارات السّياسيّة المحليّة والخارجيّة. فضلًا عن التخوف من تبعات المساءلة والملاحقة الدوليّة للطرفين المتقاتلين -حزب الله وإسرائيل- كما جاء في طلب مدعي المحكمة الجنائيّة الدوليّة كريم خان، إصدار مذكرات توقيف بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ ووزير الدفاع وثلاثة من قادة "حماس" بالمقابل.
قتل الصحافيين واللجوء إلى العدالة الدوليّة
وفي حديثه إلى "المدن"، يُشير المسؤول الإعلاميّ في مؤسسة سمير قصير، جاد شحرور، إلى أن "تراجع الحكومة اللّبنانيّة عن قبول اختصاص الجنائيّة الدوليّة للتحقيق بالجرائم المرتكبة على الأراضي اللّبنانيّة -وهنا نتكلم بشكل أساسيّ عن قضيّة استشهاد ربيع معماري، فرح عمر وعصام عبدالله- يأتي ضمن سياق منهج القمع الذي تعتمده الحكومات اللّبنانيّة المتعاقبة، بيّد أن السّلطة السّياسيّة تسدّ الطريق على المساءلة والمحاسبة والعدالة، بحجة أنّه يتمّ رفع شكاوى إلى مجلس الأمن الدوليّ، بالرغم من معرفتهم المسبقة أن هذه الشكاوى هي فقط لتوثيق الانتهاكات وإنما ليست للمحاسبة، وكأن الحكومة تُعزز ظاهرة الإفلات من العقاب، وليس لشخص غير معروف بل هو العدو الإسرائيليّ المتواجد على حدودها. أما وهذه الحكومة الّتي يشغلها حزب الله بكتلة وازنة، ويخوض صراعًا حاليًّا مع إسرائيل فيأتي رفضها مفاجئًا. وهذا باعتقادي إزدواجية في المعايير. واعتقد أن خوف الحكومة اللّبنانيّة من الانضمام، سوف يعطي الجنائيّة الدوليّة مجالًا للمساءلة الداخليّة في لبنان ويطال الأفرقاء المتورطة منذ 7 تشرين الأوّل للآن. ولكن الرفض في كل الأحوال يصب مُجدّدًا في قالبٍ قمعيّ للحريات والحقوق الإنسانيّة والإعلاميّة في لبنان".
العدالة الدوليّة المُقزّمة
وبصرف النظر عن حيثيات هذا التراجع وارتداداته، قد يكون لهذه الخطوة بُعدٌ آخر، متصل طرديًّا بتصور لبنان الرسميّ للعدالة -العدالة المؤجلة وطنيًّا والمحدودة على المستوى الدوليّ- خصوصًا أن لبنان لا يزال حتّى اللحظة يتمنّع عن أن يكون من مجموع الدول 124 الموقعة على نظام روما الأساسيّ للمحكمة الجنائيّة الدوليّة The Rome Statute of the International Criminal Court، هذا النظام الذي دخل حيز النفاذ عام 2002، واضعًا المدماك المؤسّس لأول محكمة دائمة وكيان دوليّ مستمر، يتولى مهمة المحاسبة على جرائم الحرب كالقتل العمد، التعذيب أو المعاملة اللاإنسانيّة، التجارب البيولوجيّة، التسبب عمدًا في معاناة شديدة أو إصابة خطيرة للجسم أو الصحة، وتدمير الممتلكات والاستيلاء عليها على نطاق واسع، وغيرها من الانتهاكات للحقوق البديهيّة الّتي كفلها القانون الدوليّ للإنسان، والّتي اُرتكبت غالبيتها من قبل إسرائيل في الجنوب اللّبنانيّ.
والحال، أن هذا التمنّع بشكلٍ عام نابع من الإنتاج المشوّه للسلطة وانتهاء السّياسة اللّبنانيّة وانتفائها كمفهوم، والاستعاضة بـ"الديمقراطيّة التوافقيّة" لتنصيب زعماء الحرب والميليشيات كأصحاب للقرار (بدأت عام 1989 وجُدّدت عام 2008)، كمخرجٍ للنزاعات والحروب، بما يضمن استفادة الأطراف والحفاظ على موازين القوى. ناهيك بالتذرع المارق بأن لبنان لم يوقع على هذا النظام على اعتبار أنّه لم يتمّ للآن إجماع وطنيّ بعد على توصيف حاسم للجريمة وتفضيله للقضاء الوطنيّ للفصل في النزاعات (الأخير الذي أثبت فشله في تكريس العدالة). والجدير بالذكر أن النموذج اللّبنانيّ ما هو إلا صورة متناظرة الإنعكاس لنماذج أخرى في المشرق العربيّ المنكوب، الّتي رفضت المساءلة والعدالة الدوليّة، بظروفٍ وذرائع مشابهة.
رفض العدالة الدولية!
وهذا يقودنا للتساؤلات التّاليّة: بالنظر لكون لبنان وإسرائيل ليسا من أعضاء المحكمة الجنائيّة، من سيُسائل إسرائيل عن قتلها للصحافيين والمدنيين (إن لم يُقدم إعلان رسميّ للانضمام الجزئيّ ضمن إطار زمنيّ وفقًا للفقرة 12 من النظام)؟ لماذا لبنان وفي خضّم الحرب الدائرة على أراضيه، يرفض العدالة الدوليّة؟ أين تقع أهمية انضمام لبنان إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة؟ وهل مطلب اللجوء إلى القضاء الدوليّ، قد يكون الحلّ لأزمات لبنان البنيويّة في أوجّ العجز الحاليّ على قاعدة "ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جُلّه"؟
هذا وتشرح المحاميّة السّابقة في المحكمة الجنائيّة الدوليّة ICC والخبيرة في القانون الدوليّ، ديالا شحادة، إلى أن "ليس هناك أي سبب يمنع أي دولة، أن تصبح طرفًا عبر برلمانها في نظام روما (State party)، أو أن تُعلن حكومتها قبول اختصاص المحكمة الجنائيّة الدوليّة (declaration of recognizing the jurisdiction of the Court)، للتحقيق في أخطر الجرائم الدوليّة الواقعة على أراضيها وبحقّ الإنسان، سوى أن هذه الدولة غير راغبة في حماية شعبها ولها حسابات سياسيّة أخرى، على غرار التأثر بضغوط سياسيّة إما وطنيّة لجهة احتمال ارتكاب أفرقاء وطنيين لانتهاكات تتدرج ضمن القانون الدوليّ، أو ضغوط دوليّة مثل القبول بضغوط الولايات المتحدة الأميركيّة، الّتي تُحارب المحكمة الجنائيّة في كل ما يتعلق بحلفائها مثل إسرائيل أو لجيوشها مثل التحقيقات الّتي فتحت عن الانتهاكات الّتي سُجلت في أفغانستان.. والسبب الوحيد سيكون سياسيّاً وليس إنسانيّاً أو وطنيّاً، وهو لحماية أفرقاء داخليين أو حلفاء دوليين".
مساءلة وتعويض
وتُضيف شحادة، "أما مطلب أن يكون لبنان طرفًا في النظام فهو مطلب واقعيّ. وما هو أكثر واقعيّة، من أن تطلب المساعدة عندما تجد نفسك قاصرًا على محاسبة الارتكابات الّتي تقع بحقّ شعبك، من المجتمع الدوليّ؟ خصوصًا أن قرارات المحكمة الدوليّة تلتزم فيها 124 دولة، في الوقت الذي تلتزم بقرارات المحاكم الوطنيّة ليست إلا الدولة الموقعة اتفاقيات ثنائيّة معها".
وتستطرد بالقول: "أما أهمية مطلب انضمام لبنان إلى هذه المحكمة، أنه يُثبت ويضمن محاسبة أي دولة ترتكتب جرائم دوليّة بحقّ الشعب اللّبنانيّ وعلى الأراضي اللّبنانيّة، وتكريس مفهوم ومبدأ المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، وردع المجرم والمرتكب. وأبرز مثال على ذلك هو المجابهة العنيفة الّتي تقوم بها أميركا وإسرائيل في المحكمة الجنائيّة حاليًّا، والّتي لا تدل سوى على خطورة هذه المحكمة على الأفراد، خصوصًا أن قرارتها تنهي حياتهم السّياسيّة (وليس الميليشيات) حيث يصبحون غير قادرين على الدخول إلى 124 دولة في العالم، وقرارات هذه المحكمة لا تسقط بمرور الزمن وبالتقادم، بل تسقط فقط في محاكمة الأفراد. وذلك مع التذكير أن المحاسبة أمام المحكمة الجنائيّة تتضمن تعويضات لجبر الضرّر، فهي محاسبة من أجل الردع وهي أيضًا تعويض على الضرّر"..
مطلب سياسيّ؟
في السّياسيّة الداخليّة اللّبنانيّة، فإن هذا المطلب كان وعلى غرار سائر المطالب اللّبنانيّة، إشكاليًّا ونقطة خلاف، وخصوصًا في الفترة الممتدة بين 2005 (بُعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري) و2008، حيث عادةً ما تُفضل غالبية الأحزاب التنصل من هذا المطلب كما أسلفنا، خوفًا على ميزان القوى ومن المساءلة الدوليّة، لجهة أن المحكمة الجنائيّة الدوليّة تعمل بمبدأ التكامل مع القضاء المحليّ، مما يميزها عن المحاكم الدوليّة الخاصة الّتي تتمتع بالأسبقية على القضاء المحليّ. ومبدأ التكامل يعني أن المحكمة الجنائيّة الدوليّة تتدخل عندما يكون القضاء المحليّ غير راغب أو غير قادر على تحقيق العدالة. يتضمن ذلك تأخر القضاء المحليّ في تقديم المتهمين إلى العدالة، أو عدم قدرته على توقيف المطلوبين أو جمع الأدلة. كما هو الحال في قضية الحرب الأهليّة والمفقودين، ومقتل الرئيس رفيق الحريري، وصولًا لتفجير المرفأ والحرب مؤخرًا. فيما عبّر عددٌ من النواب في البرلمان اللّبنانيّ في حديثهم إلى "المدن" (غالبيتهم من كتلة التغيير)، أنهم يُرحبون بمثل هذا الطرح وهم من قام أساسًا بمساءلة الحكومة عن رفضها لاختصاص المحكمة.
أما عن كونه مطلبًا متأصلًا ضمن الحلول العمليّة والعلميّة للقضية اللّبنانيّة، فيُشير منسق شبكة "مدى" الشبابيّة، محمد الساحلي، "بالرغم من كون قرار المحكمة الجنائيّة الدوليّة الأخير، بحقّ إسرائيل، يُعد سابقة ولو كانت متأخرة، فإنه قد يكون أيضًا سابقة في لبنان، ولو كان بعيدًا عن الواقع الحاليّ"، واعتبر الساحلي أن "مطلب انضمام لبنان إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة، هو على لائحة المطالب المستعجلة، لقلب الرأي العالمي لصفنا".