خياطو طرابلس... تحوّلات لبنان مرّت من هنا

كتبت أنديرا مطر في القبس الكويتية: منذ الحرب الأهلية التي انتهت عام 1990، لم يعرف الاستقرار والازدهار طريقاً إلى لبنان، فما إن سكتت أصوات المدافع والصواريخ والرصاص، حتى بدأت أزمة سياسية، وراحت تداعياتها تزداد عاماً بعد آخر، محدثةً انهياراً اقتصادياً، وملقية بتأثيراتها السلبية على قطاعات واسعة في البلاد، ما أوجع اللبنانيين وأثّر عميقاً في طبيعة حياتهم.

ومثلما بدّدت تلك التداعيات مزايا عديدة اتصف فيها لبنان لعقود، كالسياحة والفن، طاولت مهناً ومصالح، كانت من شخصية لبنان وهويته، فجعلتها مندثرة، أو آيلة إلى الاندثار.

معلّم الخياطة الخاصة بألبسة الرجال أحمد المرعبي، شاهد على ما آل إليه حال تلك المهنة، التي تميزت بها على وجه الخصوص مدينة طرابلس، وبلغت شهرتها كل لبنان، وحتى العالم العربي.

في شارع الثقافة بطرابلس، يواصل أحمد العمل في محله، بخبرته التي جمعها على مدى خمسين عاماً، لكنه يبدأ حديثه عن مهنة الخياطة بأسى، موضحاً أن أيّاً من أبنائه لم يرغب في تعلّمها، وليس أبناؤه فحسب، بل يندر أن يرغب أحد الشبان في لبنان بتعلّمها.

متحدثاً لـ القبس، يصف المعلم أحمد واقع الحال بالقول: «تكاد هذه المهنة أن تندثر في طرابلس، بعدما بلغت شهرتها كل لبنان وحتى العالم العربي، لاسيما أن تداعيات الأزمة الاقتصادية منذ 2019 جاءت ثقيلة على خياطي طرابلس. الإقبال على خياطة الطقم الرجالي يكاد ينعدم بعد الأزمة، بالنظر إلى أن زبائننا هم إجمالاً من الطبقة الوسطى التي طحنتها الأزمة».

ويضيف، مبيناً التحولات التي أحدثتها الأزمة السياسية على مستوى المعيشة: «أولويات متوسطي الدخل اختلفت. لم يعد في إمكانهم الإنفاق على أمور، تُعتبر في ظروف كهذه من الكماليات. لكن هذا لا ينفي أن قلّة من الزبائن ظلت تقصدنا، لأنها اعتادت على الخياطة، ونشأت صداقة بيننا. كما أننا بالنظر إلى ضيق الحال نحاول قدر الإمكان أن نخفف الأعباء المادية على الزبون، لكي نستطيع أن نكمل في مهنتنا، وإلا اقتصر عملنا على تصليح الألبسة، وهو أمر ازدهر كثيراً بعد الأزمة، لأن الناس أصبحوا يفضّلون تصليح ملابسهم القديمة على شراء ملابس جديدة، وهكذا بات مصير مهنة الخياطة من مصير البلد، يعيش فتعيش، يموت فتموت».

خبرة تضاهي أعرق مدن الموضة

الخيّاط أحمد العلي، من القلّة الذين يحترفون خياطة الجاكيت الرجّالي، مع زميله عزالدين، في ورشة يملكها الأخير.

يروي أحمد لـ القبس كيف كانت طرابلس قبل الحرب اللبنانية (1975) سوقاً لكلّ المناطق، الممتدة من عكار شمالاً، حتى جبيل جنوباً، فضلاً عن أنها كانت مقصودة من كل لبنان، عندما يتعلق الأمر برغبة الزائرين في شراء أو تصنيع أغراض، تندرُ في أماكن أخرى، أو لا تُصنع بالجودة نفسها.

اندلاع الحرب كان محطّة حاسمة في تاريخ المدينة، حيث عاشت طرابلس شبه عزلة، وانقطع الزّوار عنها، ما انعكس على خيّاطيها، إذ غاب زبائنهم، بعدما كانوا يقصدونهم من كل لبنان، نظراً لشهرتهم وخبرتهم، التي كانت تضاهي خبرة الخيّاطين في أعرق مدن الموضة العالمية، كما يقول نقيب الخياطين السابق طارق نادري.

يروى نادري أن هذه المهنة انتقلت إلى طرابلس عبر خيّاطين أوروبيين، أتوا من القدس في العقود الأولى من القرن العشرين. ولذلك فإن خياطي طرابلس يتقنون الخياطة الأوروبية تماماً، ولا يستخدمون الآلة الكهربائية، إلا نادراً.

المعلم نصوح ووجهاء البلد

يُجمع خيّاطو طرابلس على أن أشهرهم على الإطلاق هو «المعلّم» نصّوح الدبوسي، الذي كان محلّه في منطقة التّل، قرب برج الساعة العثمانية.

يروي الخيّاط أحمد، الذي عمل في السبعينات في مشغل الدبّوسي، أن وجيهاً من وجهاء طرابلس وسياسييها أرسل رجلاً إلى الدبوسي، يطلب منه أن يأتي إليه ليأخذ له مقاساته، ويعرض عليه الأقمشة، فما كان من الدبّوسي إلا أن ضرب رأسه بمقص من شدة غضبه، إذ اعتبر أن هذا الوجيه أهانه، لمجرد أن طلبه لمركزه، عوض أن يأتي هو بنفسه إلى المشغل.

وهذا دليل على المكانة التي كان يحتلها الدبّوسي في عالم الموضة الرجالية في المدينة، ودليل أيضاً على مكانة المهنة نفسها، التي تتطلب حرفية عالية وحسّاً فنياً، ينعكسان في شخصية الخيّاط وطريقة تعامله مع الزبائن.

يروي نادري أن زبائن كثراً كانوا يمضون وقتاً في مشاغل الخياطين، يحتسون القهوة ويتبادلون الأحاديث، وكان من بين هؤلاء الزبائن سياسيون، مثل الرئيس الراحل سليمان فرنجية، المتحدّر من مدينة زغرتا، المجاورة لطرابلس، والذي كان يخيط بذلاته عند الخيّاط طيسون، في شارع يزبك، إضافة إلى رئيس الحكومة الراحل رشيد كرامي.

شهرة من بغداد إلى الكويت

لشهرتهم، كان خياطو طرابلس ينتقلون للعمل في الدول العربية. ويروي الخيّاط أحمد لـ القبس أنه قصد العراق عام 1980 بهدف العمل في بغداد، مع ثلاثة من زملائه، حيث كان أجر الخياط هناك أعلى بنحو ثلاث مرّات عنه في بيروت. لكن بعد يوم واحد على وصولهم، اندلعت الحرب العراقية - الإيرانية، فاضطروا للعودة إلى طرابلس.

كما أن أحمد نفسه كان قد تعلّم خياطة البنطلون على يد خيّاط في منطقة البداوي المحاذية لطرابلس، كان قد أتى من الكويت، في منتصف الستينات، بعدما أقام فيها سنوات يمارس مهنته.

تروي مصير بلد بأكمله

نظمي الصيادي، رشاد علّاف، أديب عوض، جورج طبشراني، محمود القاضي، محمد السبسبي، أحمد المرعبي؛ سبعة خيّاطين للطقم الرجالي كانت محالهم متلاصقة، على درج التلّ، المؤدّي إلى قهوة التلّ العليا في طرابلس.

هؤلاء لم يكونوا كل خياطيّ طرابلس، لكنّهم كانوا خيّاطي شارع واحد، من عشرات الشوارع والساحات في المدينة، التي ندر أّلا تجد فيها ولو خياطاً واحداً. لكنّ درج التل يخلو اليوم من الخيّاطين، بعدما غاب معظم هؤلاء، ولم «يرث» أيّ من أبنائهم المهنة عنهم.

تاريخ مهنة الخياطة في طرابلس يعكس التحوّلات السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية، ليس في لبنان كلّه، فازدهار هذه المهنة كان من ازدهار البلد، وركودها كان من ركوده أيضاً. ففي بلد مثل لبنان، تؤثّر الحالة السياسية في أدق تفاصيل الحياة، وهكذا، تكاد هذه المهنة أن تندثر في طرابلس، لتروي مصير بلدٍ بأكمله.