خير الدين ببيروت: مشتبه به متعاون مع التحقيق الفرنسي

عاد إلى العاصمة بيروت المصرفي مروان خير الدين، ظهر أمس السبت، بعدما مرّ بمحنة منع السفر في العاصمة الفرنسيّة باريس لمدّة أسبوعين. الاستقبال الشعبي والسياسي في المطار، والاحتفاء العلني بالحدث، حاولا الإيحاء بأن خير الدين خرج من الأزمة ظافرًا منتصرًا بريئًا، بعدما حقّق معه القضاء الفرنسي، ولم يجد أي شبهات تستدعي الاستمرار باحتجازه. وهذا تحديدًا ما نقلته حرفيًا بعض وسائل الإعلام، نقلًا عن مصادر مقرّبة من خير الدين.

 

لكنّ المتابعين للملف في العاصمة باريس، ما زالوا حتّى اللحظة ينقلون صورة مغايرة تمامًا. فحتّى لحظة صدور الأحكام النهائيّة، خير الدين ليس بريئًا، وعودته لا تعني خروجه من دائرة الاتهام. هو مجرّد مشتبه به متعاون مع التحقيق.

 

خير الدين مشتبه به حتّى إشعار آخر

لغاية تاريخه، الوضعيّة القانونيّة لخير الدين في فرنسا هي كالتالي: ملاحق قضائيًا بموجب لائحة اتهام رسميّة، تشمل تشكيل عصابة إجراميّة، بهدف تسهيل اختلاس المال العام وتبييض الأموال وإساءة الأمانة. وعودته إلى بيروت، تجعله مجرّد مشتبه به متروك رهن التحقيق، بموجب كفالة ماليّة، بانتظار صدور الحكم النهائي. وصدور الأحكام النهائيّة، هو وحده ما يميّز الخيط الأبيض من الخيط الأسود في هذا الملف.

 

أمّا الأهم، فهو أن مجرّد وجود كفالة ماليّة، كشرط لتركه رهن التحقيق، يمثّل دلالة قاطعة على أنّ لائحة التهم لم تسقط. أمّا السماح له بالعودة إلى بيروت، فلا يقدّم أي دلالة أو مؤشّر بخصوص طبيعة الحكم الذي سيصدر لاحقًا.

 

الدلالة الأساسيّة التي تقدّمها عودته إلى بيروت، هو أنّ خير الدين تعاون مع التحقيق، وقدّم في فرنسا كل المعلومات المطلوبة منه بشكل كامل، وهذا ما دفع المحققين لتركه بوصفه متعاوناً معهم. مع الإشارة إلى أن الإجراءات القضائيّة في فرنسا تميّز خلال فترة التحقيق بشكل واضح بين طريقة التعامل مع المتهمين الأساسيين، وأولئك المسهّلين لارتكاب الجرائم التي يجري التحقيق فيها. كما تميّز بين المسهّلين غير المتعاونين مع التحقيق، وأولئك الذين يقدمون كل المعلومات المطلوبة لكشف خيوط إضافيّة في الملفّات التي يجري التحقيق بشأنها. والهدف الأساسي من كل هذه الإجراءات، هو وضع حوافز تدفع هؤلاء للتعاون في تقديم المعلومات خلال فترة التحقيق.

 

ويؤكّد كل ما سبق الأنباء التي تسرّبت قبل الأيّام من العاصمة الفرنسيّة، والتي أشارت إلى أنّ خير الدين سعى –بمعاونة من مستشارين قانونيين فرنسيين- إلى عقد صفقة مع التحقيق الفرنسي، تقضي بتسهيل عمل المحققين وفتح الدفاتر أمامهم، مقابل اعتباره متعاونًا مع التحقيق وإخراجه من دائرة الرقابة القضائيّة (راجع المدن).

 

وبهذا الشكل، لم يعد خير الدين حريصًا على تغطية سلامة وعرقلة التحقيق، بل وعلى العكس تمامًا، بات هدفه ضمان حريّته ولو على حساب تقديم المعلومات التي يحتاجها المحققون، والتي تدين سلامة بالجرائم المنسوبة إليه. وما جرى بالأمس، لم يكن سوى حصيلة هذه الصفقة القضائيّة التي جرت في باريس.

 

سلامة متّهم من خلال اعترافات خير الدين

تؤكّد كل هذه المعلومات مع الخبر الذي نقلته وكالة رويترز قبل يوم واحد من عودة خير الدين، والتي كشفت بموجب وثائق حصلت عليها الوكالة أنّ ممثلي الادعاء الفرنسي أبلغوا حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، أنهم يعتزمون توجيه اتهامات مبدئيّة له، بالتزوير وغسل الأموال. والدخول في تفاصيل المعلومات التي نقلها الوكالة، يؤكّد بما لا يقبل الشك أنّ الاتهامات الموجّهة لسلامة لم تكن بعيدة عن الاعترافات التي قدّمها مروان خير الدين شخصيًا.

 

فالوثائق التي اطلعت عليها وكالة رويترز تحدّثت حرفيًا عن شبهات تزوير كشوفات الحسابات المصرفيّة، بهدف إخفاء مصادر الثروة التي جرى تحويلها إلى أوروبا. وحسب الخبر، يعتزم المحققون توجيه كل هذه الاتهامات المبدئيّة خلال جلسة الاستجواب المقررة لسلامة بتاريخ 16 أيّار في باريس، والتي يفترض أن يتم خلالها تسمية رياض سلامة بالمتّهم رسميًا لأوّل مرّة.

 

واحتوت الوثائق على سلسلة من كشوفات الحساب المصرفيّة، التي تحاول تبرير كيفيّة تراكم مدخرات مودعة في حساب رجا سلامة، من 15 مليون دولار عام 1990، إلى 150 مليون دولار عام 2019، عبر "رسملة الفوائد". واعتبر المحققون الفرنسيّون أنّ كشوفات الحساب هذه، مع كل التبريرات المرفقة بها، هي مفبركة، لتبرير مصدر ممتلكاته في أوروبا "عن طريق الخداع".

 

في واقع الأمر، ما يتحدّث عنه المحققون الفرنسيون، ليس سوى كشوفات حساب بنك الموارد، المتعلّقة بحساب رجا سلامة، والتي قدّمها سلامة للمحققين الأوروبيين مؤخّرًا. وهذه الكشوفات كانت تحديدًا موضوع الاتهامات الموجّهة لخير الدين، والتي تمحورت حول التواطؤ مع سلامة لتسهيل عمليّات الاختلاس التي قام بها، ومساعدته على إخفاء مصادر الثروة التي تراكمت لاحقًا في أوروبا على شكل استثمارات وموجودات عقاريّة. بصورة أوضح: ما وجّهه التحقيق الفرنسي لسلامة من اتهامات قبل يومين، لم يكن منفصلًا عن التحقيقات التي جرت مع خير الدين خلال الأسبوعين الماضيين، والتي أفضت –بعد تعاون خير الدين مع التحقيق- إلى عودته إلى بيروت.

 

في النتيجة، يقول المحققون الفرنسيون في الوثائق ما يلي: رياض سلامة غير قادر على تبرير القروض والاستثمارات المختلفة، التي مكنته من زيادة ثروته بأكثر من 250 مليون يورو على أقل تقدير.

 

القضاء اللبناني نائم... ويوسف الخليل مشبوه

كان من المتوقّع أن يتلقّف القضاء اللبنانيّ أحداث الأيّام الماضية، ليستدعي خير الدين ويطلع منه على تفاصيل المعلومات التي قدّمها للتحقيق الفرنسي، والتي أفضت منذ يومين إلى إبلاغ سلامة بالتوجّه نحو اتهامه رسميًا. فالأموال المشتبه باختلاسها، هي أموال عامّة لبنانيّة. والمصرف المشتبه بانخراطه في تبييض هذه الأموال، هو مصرف لبناني. لكن وعلى العكس تمامًا، كان من الواضح الغياب التام لأي تحرّك قضائي، بالتوازي مع الاستقبال العارم الذي حظي به خير الدين في المطار.

وفي الوقت نفسه، تحذّر مصادر قانونيّة من الدور المشبوه والخطير الذي يقوم به وزير الماليّة يوسف الخليل، لحساب سلامة، وعلى حساب المال العام ومصلحة الدولة اللبنانيّة. فيوسف الخليل يعرقل حتّى اللحظة خطوة ادعاء الدولة اللبنانيّة على حاكم مصرف لبنان، من خلال التقاعس عن الموافقة على طلب الادعاء الذي قدّمته هيئة القضايا في وزارة العدل. وفي الوقت الراهن، يتذرّع فريق الدفاع عن سلامة بموقف الخليل المتواطئ مع سلامة، لعرقلة عمل الهيئة في أوروبا، ومنعها من ضمان حق الدولة اللبنانيّة في الأموال المشتبه باختلاسها، والمحجوزة حاليًا لمصلحة النيابات العامّة في الدول الأوروبيّة.

 

خطورة موقف الخليل مزدوجة:

1- فمنعه ادعاء الدولة على حاكم مصرف لبنان، يمنع هيئة القضايا من وضع حجوزات على ثروة الحاكم في أرووبا. وهذا ما سيحصر الحجوزات بتلك التي فرضها الأوروبيون فقط. والنتيجة هنا، هي خسارة المال العام لهذه الأموال، التي هي من حق الدولة أولًا وأخيرًا. وفي حال صدرت الأحكام على سلامة، وجرت مصادرة الأموال لحساب الأوروبيين، سيكون على مجموعات الضغط الكثير من الجهد لضمان إنفاق هذه الأموال على مشاريع متصلة بلبنان، بدل أن تتم مصادراتها كليًا.

 

ببساطة، يوسف الخليل يقوم بمناورة خطيرة، قد ندفع ثمنها غاليًا في المستقبل.

 

2- الأخطر، هو أنّ موقف يوسف الخليل يعني أنّ الدولة اللبنانيّة لا تعتبر أنّ الأموال المحتجزة هي أموال مختلسة فعلًا، رغم أن أعلى سلطة ادعاء (النيابة العامّة التمييزيّة) قرّرت أنّ هناك شبهات جديّة تستدعي طلب الادعاء على الحاكم بتهمة الاختلاس. وهذا الموقف المشبوه، هو ما يقوّي موقف فريق الدفاع عن حاكم مصرف لبنان في الخارج، ما يعني أن يوسف الخليل يعمل اليوم كمؤتمن على مصلحة حاكم مصرف لبنان، وكموظّف "تحت يده" في المصرف المركزي، بدل أن يكون وزير ماليّة مؤتمناً على المال العام ومصلحة الدولة اللبنانيّة.

 

هذا الدور الخطير، يُضاف إلى كثير من الأدوار الخطيرة التي لعبها يوسف الخليل مؤخّرًا: من إخفاء تقرير التدقيق المحاسبي في مصرف لبنان، إلى طمس مسار التدقيق الجنائي، وعدم القيام بأي خطوة للنظر في مصير الحاكميّة بالتوازي مع التحقيقات القضائيّة الجارية، وصولًا إلى التغاضي عن تقديم أي توضيحات بخصوص مسألة دين 16.5 مليار دولار الذي خلقه حاكم مصرف لبنان كدين عام مترتّب على الدولة اللبنانيّة. باختصار، حالة يوسف الخليل تمثّل أبرز مثال على وضعيّة السلطة السياسيّة بأسرها اليوم: سلطة تعمل لحساب النخبة الماليّة، لا الشعب اللبنانيّ.