المصدر: نداء الوطن
الكاتب: نوال نصر
الثلاثاء 21 كانون الثاني 2025 07:07:07
إلى الجنوب سرّ، إلى ما بعد بعد الليطاني قررنا - قبل أقل من 24 ساعة - أن نسير. في اليد "إذن" من مديرية التوجيه في قيادة الجيش، وفي البال قناعة أن البصر، كما البصيرة، يكشفان معاً مظهر الأشياء وحقائقها. ذهبنا إلى الجنوب، قبل أسبوع واحد من انتهاء مهلة الستين يوماً، على وقف القتال بين إسرائيل و"حزب الله". العدّ العكسي بدأ. ماذا عن أهل الشريط الحدودي في الجنوب اللبناني؟ ماذا عن تفاصيل انتشار الجيش في قرى حدودية؟ ماذا عن البلدات التي حذر "أفيخاي أدرعي" من العبور إليها؟ وماذا لو دخلنا - من دون أن ندرك أننا فعلنا - ما دام "لا أحم ولا دستور" ينهينا في الجغرافيا سوى دعوات من التقيناهم في رميش وعين إبل: باسمِ مار شربل والقديسين، انتبهوا... فالداخل مفقود والخارج مولود؟ إعلامياً، الجيش أعاد انتشاره في قرى جنوبية بينها بنت جبيل لكن كيف تُرجم هذا واقعياً؟ وماذا عن "الحج حرب" - شقيق الشهيد علي حرب- ابن بلدة بنت جبيل الواقف عند مفرق قريته يبتسم؟ تعالوا نذهب معاً إلى الجنوب...
"عندما نستشهد ننتصر". هي العبارة الوحيدة المعلّقة على الطريق، عند المدخل الجنوبي لبيروت، في اتجاه الجيّة. وهناك، في الجيّة، تطلّ عبارة من نوعٍ آخر فيها حبّ كثير: رفيق الحريري 14 شباط مع قلب أحمر وابتسامة. نتذكر أن 14 شباط يقترب. بين الجية وصيدا الأفق مفتوح على سماءٍ زرقاء وبحر هادئ. ولولا بعض التنبيهات التي رفعت: "الخطر مزروع بأرضنا" و"إذا بتفكّ موتور مش معناه إنك تفك قذيفة" لكننا نسينا شؤون وشجون اللحظة ورددنا مع وديع الصافي: "الله معك يا بيت صامد ب الجنوب"... حاجزٌ للجيش اللبناني ثابت عند مدخل مدينة صيدا. "الله معكم يا شباب" قلنا لهم فأجابوا: الله معكم. تابعنا. صور فخامته معلقة على جدران بيوت معنونة: جيش شعب دولة. يا الله كم هذه العبارة جميلة.
آرمة تُحدد الجغرافيا: "القدس تبعد 199 كيلومتراً". ندخل الغازية فتظهر صور نبيه بري: "حامل الأمانتين... معك دون قيد أو شرط". و"أهلاً وسهلاً بكم في جنوب الأمين نبيه بري". وجوه وجوه في صفٍ واحد طويل طويل فوق الجسور مذيلة بعبارة "بقادتنا الشهداء انتصرنا". نعدّ الوجوه. إنها 16. ووجه السيد حسن نصرالله ينتصف أصحابها. إنهم قادة "حزب الله" الراحلون في الحرب الأخيرة. نصل إلى أوتوستراد الإمام موسى الصدر. نتجه نحو صور والناقورة: تمهل أمامك حاجز. فوج التدخل الثاني هنا. نلقي السلام ونمضي. نصل إلى برج رحال. هيصة وأغنيات وأولاد ملثمون. كتائب القسام تحتفل بوقف إطلاق النار في غزة والضيافة: بون جوس. نسأل رجلين جالسين قرب فرنٍ يتسامران: من هنا الطريق إلى الناقورة؟ ينقزان مجيبَين: طوّالي طوّالي... لكن شو آخدكم ع الناقورة "والعة" هناك. نتابع. ردمٌ ظاهر. مبانٍ سقطت من أساساتها. وأحد المحلات الواقعة أرضاً كتب صاحبه: "يا ريت الرزق كله راح وبقيت أنت يا سيّد". نمرّ أمام ثكنة بنوا بركات. نمرّ جنب مخيّم الرشيدية. الأعلام الصفر تتزايد. في بلدة القليلة حاجز للجيش اللبناني- السرية 511. نمرّ في حناويه. مبانٍ كثيرة سقطت. نمرّ في شارع نبيه بري في قانا الجليل. نعبر في كفرا وياطر ونصل إلى حاريص. ابتسموا أنتم في حاريص. نمرّ في تبنين، بلدة نبيه بري، ونتابع. نصل إلى الطيري "قلعة المقاومة". أعلام أمل مشلعة وعبارة تتكرر "هيهات منا الذلة".
الناقورة، ممنوع المرور
نتابع صوب الناقورة. الهواء نقي. وحاجز عند آرمة "الناقورة" وأمرٌ: ممنوع الدخول. نعرّف عن أنفسنا. أسماؤنا غير موجودة. نتصل بمديرية التوجيه فيؤكدون وجود الأسماء مع رقم تسلسلي. نعطي الحاجز الرقم فيطلّ رجل من المخابرات، مدني، ويأمرنا بغضبٍ بالرحيل: الدخول ممنوع. ننصاع ونعود أدراجنا في اتجاه القطاع الأوسط، نحو رميش ودبل وعين إبل. لا حواجز للجيش اللبناني على طول الطريق. هنا بنت جبيل "عاصمة المقاومة والتحرير". الجيش اللبناني أعاد الانتشار في البلدة لكن الدخول يستمرّ ممنوعاً إلا عند حفافي البلدة. نتجه يساراً. في عين إبل أشجار شربين تظلل الطريق ومبنى، يشبه البرج العالي، يشدنا للتوقف. هنا يشيّد مزار أم النور. بدأ تشييده عام 2017 ولم يكتمل بعد. وابن البلدة يورغو متري يخبرنا عنه "طول البرج 64 متراً وعلى قمته سيوضع تمثال أم النور بطول 14 متراً". لكن الأحداث المتتالية منعت الإنجاز. تعرّض المزار إلى هواوين من الإسرائيليين الذين مشطوا القرى في الحرب النازفة الأخيرة. سقف البهو - الذي سيكون كنيسة البرج - مثقوب بهاون. وقبالة المزار، في السهول المقابلة، تقع بلدتا مارون الراس ويارون. الإحتلال لا يزال هناك. والبارحة، نعم البارحة بالذات، سُمعت في الأرجاء ثلاثة تفجيرات هزّت القرى المجاورة. ما زالت إسرائيل تفجّر السراديب في البلدتين. ننظر في السهول. وننظر نحو الطريق المحاذي. شاحنات للجيش اللبناني تقف على الطريق. الجيش يعيد انتشاره ويدخل إلى بنت جبيل.
فلنتابع طريقنا نحو رميش. ترحيب من عين إبل قبل الوصول. منتزه هوا شلعبون عند يمين الطريق. إنها "قعدة" لبنانية بين الشجر. هي تتبع عين إبل لكن أهالي بنت جبيل ينسبونها لهم. لا يهم. المتنزه مقفل حالياً. يافطات كثيرة رُفعت في عين إبل إحتفاءً بانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية "عين إبل تشارك العيشية الفرح بانتخاب ابنها المغوار رئيساً للجمهورية". الأهالي في الكنائس. والنسوة يتّشحن بالسواد في "ملقى" جثمان أحد أبنائها. هذه هي العادات في عين إبل. مزارات العذراء في كل مكان. وصور الياس الحصروني "الشهيد البطل" الذي لاحقوه وقتلوه في حادث مدبر ترتفع. الياس الحصروني، الريّس الياس، كان يعمل من قلبه وبعرقه لتشييد مزار أم النور مردداً: "يا أم النور أعطني عمراً حتى أراك مرتفعة على برج المزار العالي". لم يكتب له العمر. مجرمون قتلوه قبل أن يرى المزار منجزاً. نمرّ أمام نصب الشهيد كيروز يوسف بركات. ونصل إلى رميش. وآرمة ترحيبية. شباب الضيعة يشكلون حلقات. وكلهم، أو لنقل 99 في المئة منهم، من "أولاد الدولة". يتحلقون حولنا تاركين كبيرهم يتكلم: "أعاد الجيش اللبناني انتشاره لكننا لا نراه". وقبل أن يتحدث عن اللحظة يستذكر الأحداث الأخيرة المرّة "مرّ الاحتلال الإسرائيلي في أطراف البلدة ولم يتخط آرمة: رميش ترحب بكم. بل تابع نحو حانين. تضايقنا كثيراً. عشنا ويلات الحرب وذعرها. لم يعد لدينا مواد أولية ولا كهرباء حتى الإنترنت انقطع عنا. انقطعنا عن كل الضيع. أهل عين إبل لجأوا إلينا. أهل دبل غادروا إلى بيروت. أما القوزح فتساوت أرضاً. حين بدأت الحرب انسحب الجيش اللبناني إلى نقطة تبعد 8 كيلومترات من هنا. ولم يبق أي عنصر. وأقرب حاجز للجيش هو في بيت ياحون".
عودة الدولة
ماذا يحدث اليوم؟ هل أعاد الجيش اللبناني انتشاره في رميش؟ "إنه يمرّ يومياً من هنا لكن لا مراكز ثابتة له. كانت توجد ثلاثة مراكز حدودية للجيش لم يعد بعد إليها. وإسرائيل تبعد عنا أقل من كيلومتر. ومنذ الثامن من تشرين الأول 2023 لم يعد أحد من البلدة يقترب من الحدود. حاول رعاة ذلك لكن ثلاثة منهم تعرضوا إلى إطلاق رصاص من الجانب الإسرائيلي. ثمة قرى ممنوع على أحدنا العبور فيها في القطاع الأوسط وهي راميا (التي دخل إليها الجيش منذ أسبوع) وبنت جبيل (التي أعلن إنه أعاد انتشاره فيها يوم الأحد 19 كانون الثاني هذا) والقوزح وبيت ليف... ينهينا الجيش عن الدخول إلى الأماكن التي أعاد الانتشار فيها في اليومين الماضيين خوفاً على سلامتنا من "أفخاخ" وقذائف غير منفجرة. الفرق الهندسية وحدها دخلت. وثمة جثث كثيرة لا تزال "ع الأرض" وتحت الأنقاض. نحن نشتمّ روائحها مع هبوب الهواء. ونحن ننتظر الفرج. لدينا علاقات إنسانية وتجارية مع قرى بنت جبيل ومارون الراس لكن لم نحصل على ضوء أخضر بالانتقال. لا يزال الوضع ضبابياً جداً. إنه مختلف تماماً عما تسمعون عنه في الإعلام".
نتابع سيرنا نحو "البركة" في رميش مع تحذير من الأهالي بعدم التوقف في القرى والتكلم مع أيّ كان "كي لا يلاحقونكم بسيارات مفيمة وفهمكم كفاية". تحذير آخر "انتبهوا لا تعبروا إلى عيتا الشعب المحاذية لرميش كي لا تتعرضوا إلى الخطر".
في رميش يتحدثون عن تفجيرات حدثت منذ يومين في عيتا الشعب "زلزلت الأرض". إسرائيل "تستمر في نسف الأنفاق وجرف أحراج السنديان والصنوبر والزيتون وزجاج رميش كله أصبح على الأرض". ويستطردون بالكلام عن غياب الدولة "نحن "أولاد الدولة" لكننا لم نشعر بحضورها في أحلك الأوقات. لم تتعرض البلدة إلى قصف مباشر "لأننا منعنا "حزب الله" من الدخول إلى بلدتنا" ويستطرد أحدهم "لديّ أصدقاء من عيتا الشعب يقولون بينهم وبيننا إنهم يشعرون أن الموسى ستبلعهم وأنهم إذا حكوا سيأكلون "قتلة" وإذا سكتوا يأكلون "قتلة".
نجول في الأرجاء. يتحدث أهالي رميش وعين إبل عما عانوه - وما زالوا - بما يشبه العتب "الدولة متخاذلة تجاهنا. الأحزاب المسيحية أيضاً. وإذا وضعناها على لائحة من تعاونوا معنا تحلّ القوات أولى ثم الكتائب ثم التيار والأحرار. يشعر كثيرون بالانتماء إلى القوات. لماذا؟ يجيب بيار "لأن سمير جعجع قرر أن يواجه بالدبلوماسية والقلم والعلم". نتابع مسارنا. نسأل رجالاً يجلسون قرب البركة عن انتشار الجيش فيسأل أحدهم جاره: يا سعيد فات الجيش؟ يجيبه: هنا يمرّ الجيش مروراً، لا مراكز ثابتة له، لكننا لم نره. مراكز الجيش الثابتة الحدودية ثلاثة في الخراج: مركز بو شنان وعند الجدار وسموخيا. العبور إلى دبل كان من عيتا الشعب لكنها مغلقة لذلك يفترض المرور في طريق محاذية "قال الجيش إنه دخل إلى عيتا بس ما شفنا شي". يقترب شاب مهجر "شوفولنا شو صار بعلما فينا نرجع؟". يجيبه جاره: "دخل الجيش إلى علما لكن ممنوع دخول الأهالي بسبب الألغام" ويستطرد "سمعنا أن الجيش سينتشر اليوم (الأحد) في عشرين بلدة لكننا لم نر شيئاً".
الداخل مفقود والخارج مولود
تقترب امرأة وتسألنا عن أصلنا وفصلنا وتحذرنا من الخطر المحيط "اليهود دخلوا إلى عيتا من تلة الراهب ونزلوا إلى دبل. وانتبهي بعد عيتا هناك راميا ثم القوزح التي تحولت مصطبة ثم بيت ليف ومروحين و"أوعا تضيعي بالطرقات بتروحي". أول حاجز للجيش آخر عيتا من جهة دبل. إذا رأيت حاجز الجيش اقتربي وإذا لا أهربي الطرقات خطيرة" وتستطرد "مار شربل يحميك والعذراء معك وتوصلي بالسلامة".
يشعر الإنسان برعبٍ من خوف الأهالي أولاً. نتجه نحو أطراف عيتا مسلحين بتعليمات الأهالي. نسأل ونمشي. نعبر في طريق متعرجة فرعية لا جنّ فيها ولا أنس. تلال على الميلين. وهواء يشتدّ وغيوم تتجمع. نمشي ونمشي في طريق قفرة نفرة... آرمة عند طريق متفرعة تحدد المكان: حانين. نتذكر أن الدخول إلى حانين ممنوع. نتابع "مع وجهنا" دقائق كثيرة لا نلمح بها أحداً تنتهي بمحطة بنزين. نتذكر "التعليمات": "أوعا تفرقي إلى الشمال عند المحطة خوفاً من التوغل في عيتا". نفرق إلى اليمين فنرى بلدية دبل. شابان يقفان قرب المحطة يحذراننا بدورهما: "إذا صعدتم يساراً إحتمال أن تعودوا واحتمال أكبر أن تموتوا". رعب. هكذا يعيش الأهالي في القرى الحدودية.
لا عناصر أمنية شرعية تحدد "الممنوع والمسموح". نعود أدراجنا "لا يمين ولا شمال". بعض شاحنات عسكرية على الطريق العام وكلام عن "إعادة انتشار". تغادر القافلة فتختفي الدولة. نصل مجدداً إلى بنت جبيل. نقف عند "جادة الشهيد القائد مصطفى شمران". مدني يقف عند المستديرة بين أرتال الردم في كلِ مكان. هو عنصر من "حزب الله" يضع على صدره زرّ الشهيد علي حرب. هو شقيقه. نتمهل ونتحدث معه و"يفضفض لنا": "نحن هنا، مع اهلنا، صامدون. الشعب معنا. والبيئة بيئتنا. ولولا دم الشهداء لما انتصرنا". ننظر حولنا إلى الدمار الهائل ونسأله: أين الناس؟ يجيب "وزارة الأشغال أجرت إحصاءً، وستكون لنا هذه الحقيبة، والردم سيُنقل إلى شاطئ الناقورة". يمرّ فان محملاً بالخردة جانبنا فيبتسم قائلاً "إذا بقيت خردة من هلق لوقتا". نستمر بالإنصات إلى الحج حرب "وصلنا إلى أيام الحسم، ثمانية أيام وتنتهي مهلة وقف إطلاق النار وسينسحب العدو مهزوماً. الناس سيعودون إلى بيوتهم وسيكون لنا كلام آخر مع العدو. لن نسكت. لا منزل في بنت جبيل إلا ولديه شهيد. وعتبنا كبير على الدول العربية والغربية وتحديداً على ألمانيا التي قدمت السلاح الذي ضربنا به وعلى مصر التي استخدم العدو قواعدها بضربنا بـ 1500 غارة. دمروا الحوش في بنت جبيل دماراً كلياً لأنها منطقة شيعية. وسيكون الجنوب قريباً مرقد اليهود". نسأله عن انتشار الجيش في بنت جبيل فيجيب الحج مبتسماً "جيش شو؟ مرّت من هنا شاحنات وهناك في بيت ياحون حاجز للجيش عليه عنصر واحد. لكن، اطمئنوا، نحن هنا".
نطمئن؟ ذهبنا نبحث عن الدولة فطمأننا الحزب؟ نقف عند مستديرة بنت جبيل. نرى سيارات تلوح منها أعلام "حزب الله" تتكلم مع "الحج" وتمرّ. ينظر إلينا قائلاً "العوائل تعود".
نعود أدراجنا. نمرّ أمام حديقة دولة الرئيس نبيه بري. نمر مجدداً في بيت ياحون وتبنين وقرب شقرا وبئر السلاسل والسلطانية والشهابية ومجادل وجويا والبازورية وبرج الشمالي والحوش... الردم كثير واليافطات والصور المعلقة لا تعدّ. نقرأ منها في عيترون "على كلِ مسلم أن يعدّ نفسه لمواجهة إسرائيل". و... وتصدح مجدداً أصوات فرح وتكبير وتوزيع سكاكر. رجال إسماعيل هنية يحتفلون بوقف إطلاق النار في غزة. وقبل أن نبتعد نراقب يافطة تعلق للتوّ "إننا مع فلسطين ولن نتخلى عنها".