دين الـ16 مليار دولار إلى الواجهة: لجنة تحقيق وتعاون بين المالية و"المركزي" لتحديد المسؤوليات

يُعيد الاشتباك المالي بين المصرف المركزي والدولة اللبنانية، حول موضوع الـ 16.5 مليار دولار المسجلة في حسابات المركزي دينا على الدولة اللبنانية، إلى الأذهان الصورة العشوائية وفوضى الإنفاق التي كانت سائدة قبل الانهيار النقدي والاقتصادي.

ويكشف هذا الاشتباك استسهال التعامل غير المنظم مع المال العام، وتجاوز القوانين والأطر التشريعية التي تحكم عمل المؤسسات الرسمية والمصرفية على حد سواء.
فقد كشف وزير المال ياسين جابر لـ"النهار" أن لجنة مشتركة بين وزارة المال ومصرف لبنان شكلت حديثا لمراجعة هذا الملف بطريقة علمية وموضوعية، وتضم ممثلين للجانبين، بينهم من جانب المالية كل من مفوض الحكومة بالوكالة لدى مصرف لبنان إسكندر حلاق، والمستشار المالي سمير حمود، ومديرة الخزينة رنا كرم، ومديرة الدين العام بالتكليف رانية الشعار، بينما يرأسها من جانب مصرف لبنان نائب الحاكم الدكتور مكرم بو نصّار، بمشاركة مديرَي المحاسبة والاستقرار المالي لدى مصرف لبنان.
ومن المقرر أن تعقد اللجنة اجتماعها الأول قريبا، بمواكبة شركة تدقيق أجنبية ستتولى مراجعة كيفية صرف المبلغ وتحديد الأسس القانونية والوجهات التي أنفق عليها.


أصل القضية؟
وفق مصادر مصرف لبنان، تعود جذور الملف إلى حساب بالدولار الأميركي فتحته وزارة المالية في مصرف لبنان عام 2004، كان يستخدم بمعظمه لتسديد الفوائد وسندات "اليوروبوندز" عند استحقاقها أو لتغطية مدفوعات عاجلة، خصوصا لمؤسسة كهرباء لبنان.
وبحسب المصادر، كانت الوزارة تطلب أحيانا تحويل مبالغ بالدولار إلى الخارج لتسديد أثمان شحنات فيول أو استحقاقات متوجبة على المالية، رغم علمها بعدم توافر السيولة بالدولار في حساباتها، وكان "المركزي" ينفذ التحويلات ويقيدها على حساب المالية المفتوح بالدولار، دينا موقتا إلى حين تسديده لاحقا.


ومع أن للدولة أموالا بالليرة اللبنانية لدى مصرف لبنان، إلا أن تحويلها إلى الدولار كان يتطلب شراء العملة من السوق، وهو ما لم يكن ممكنا دائما، فمصرف لبنان لا يطبع دولارا أميركيا، وتاليا لا يمكنه تأمينه للدولة إلا عبر الشراء من السوق أو استخدام الاحتياط بالعملات الأجنبية. لذا، وبالاتفاق مع وزارة المال، كان المصرف يكشف حساب الوزارة بالدولار لتسديد التزامات الدولة، ولا سيما سندات اليوروبوندز وثمن الفيول.


ومنذ فتح الحساب عام 2004، كانت الوزارة تتلقى كشوفا شهرية بالحساب وحركته من مصرف لبنان من دون اعتراض رسمي. ولكن مع انهيار سعر الصرف من 1500 ليرة إلى أكثر من 89 ألفا، برزت بوضوح قيمة الدين البالغة 16.5 مليار دولار، بعدما كانت مقيدة سابقا على السعر الرسمي في مصرف لبنان، وأعيد قيدها وفقا لسعر الصرف الجديد، أي 89.500 لكل دولار، ما دفع الوزارة إلى الاعتراض، معتبرة أنها لم توقع أي عقد قرض مع المصرف المركزي.
هنا بدأ الخلاف القانوني على طبيعة المبالغ: هل هي دين رسمي أو مجرد تسهيلات مصرفية؟
الحل المطروح اليوم يتمثل في تكليف شركة تدقيق عالمية مراجعة كل العمليات التي جرت بين الدولة ومصرف لبنان، بمتابعة من اللجنة المشتركة بين المالية ومصرف لبنان، وذلك لتحديد مصير الـ16.5 مليار دولار التي أنفقت على شكل سحب على المكشوف (Overdraft)، وأوجه استخدامها.


وتشير المصادر إلى أن "التحويلات تمت بموافقات رسمية مكتوبة من وزارة المال"، فيما يوضح مصرف لبنان أنه "لبى طلبات حكومية لتسيير شؤون الدولة في ظل الأزمات المتلاحقة". أما الوزارة، فترى أن هذه العمليات تمت خارج الإطار القانوني، وكان يفترض أن تمر عبر مجلس الوزراء ومجلس النواب.
لكن السؤال يبقى عن مصدر هذه الأموال. بحسب تقديرات مصرفية، فإن معظم التمويل جاء من ودائع المصارف اللبنانية لدى مصرف لبنان، أي من أموال المودعين أنفسهم. فالمصارف كانت تودع دولاراتها في المصرف المركزي مقابل فوائد مرتفعة ضمن ما عرف بـ"الهندسات المالية"، بينما استخدم الأخير جزءا منها لتغطية حاجات الدولة وتمويل الكهرباء والدعم الذي أقرته حكومة الرئيس حسان دياب وبلغت قيمته نحو 10 مليارات دولار، خصوصا أن الدولار لم يعد معروضا في السوق بعد أزمة النزوح السوري وتراجع التدفقات المالية.
ويرى خبراء أن القضية تكشف صلب الأزمة المالية اللبنانية. فقد أدى تمويل الدولة من أموال المودعين، حتى عبر قنوات رسمية، إلى تعميق الفجوة بين القطاعين العام والمصرفي، وأضعف الثقة بالنظام المالي برمته.
في الواقع، تتحمل المصارف من جهتها مسؤولية استثمار جزء أساسي من أموال المودعين في مصرف لبنان، رغم علمها بعجز المالية العامة، فيما يتحمل "المركزي" مسؤولية تمويل الدولة خارج الأطر القانونية، بذريعة "الضغط السياسي". أما الحكومات المتعاقبة، فمسؤولة عن الإنفاق غير الرشيد، ورفض الإصلاحات ولاسيما في الكهرباء، وعجز الموازنات، والإصرار على تثبيت سعر الصرف في كل البيانات الوزارية (التي نالت الحكومات المتعاقبة ثقة مجلس النواب على أساسها) ودعم السلع الأساسية من دون خطة مستدامة. وقد أدى هذا المسار إلى استنزاف أكثر من 26 مليار دولار من أموال المودعين، بين تمويل العجز والفوائد  ودعم السلع والوقود والأدوية.
يبقى السؤال: هل يعدّ مبلغ الـ16.5 مليار دولار دينا فعليا على الدولة اللبنانية، أو مجرد تسهيلات مصرفية تجاوزت حدود صلاحيات المصرف المركزي؟ وهل يمكن القول إن الدولة كانت تمول نفسها بالدولار ولم تستخدم الاحتياط لدى مصرف لبنان؟
الإجابة المنتظرة من لجنة التدقيق ستكون مفتاحا لتحديد المسؤوليات في واحدة من أكبر القضايا المالية في تاريخ لبنان الحديث.