المصدر: نداء الوطن
الكاتب: سامر زريق
السبت 2 آب 2025 07:27:14
الرسائل العميقة في مضامين خطاب رئيس الجمهورية في «اليرزة» جعلته يمسي أقرب إلى مذكرة جلب وطنيّة بحق «حزب اللّه» مغلّفة بأُطر استراتيجية وضوابط دولتية، لإطلاق مفاوضات اللحظة الأخيرة حول الصيغة النهائية التي يجب إقرارها خلال جلسة الثلثاء المشهودة، وتتسق مع حجم الضغوط الدولية والعربية، وجدّية المخاطر المُحيقة بلبنان دولةً وشعبًا، وتحفظ دورًا لـ «الحزب» كشريك يمثل طائفة أساسيّة من أعمدة الكيان.
من علائم هذه الضغوط لقاء الرئيس نواف سلام بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث تشير المعلومات إلى أنه كان سلبيًا واتّسم بحدّة موصوفة من «سيّد الإليزيه»، الذي أشرك في اللقاء رئيس الأركان ومدير الاستخبارات، لإحاطة رئيس الحكومة بما في حوزتهما حول نشاط «الحزب» في شراء الأسلحة وكيفية تخزينها ضمن عملية إعادة تشكيل منظومته العسكرية، ومعرفة واشنطن بهذه التطوّرات التي دفعتها إلى اتخاذ موقف متشدّد من لبنان، والتداول في فرض عقوبات صارمة عليه تضاعف فداحة أزماته.
ليخلص ماكرون إلى الطلب من سلام ضرورة إقرار مجلس الوزراء برنامجًا واضحًا لسحب السلاح ضمن مهل زمنية تنسجم مع الطرح الأميركي، لمنحه ورقة يمكنه استخدامها لإحداث ثغرة في موقف واشنطن تتيح تحسين وضعية لبنان التفاوضية، وتجنّبه ضربة إسرائيلية لا يمكن التنبّؤ بحدودها. هذه الأجواء أسهمت في حسم قرار الثلاثية الرئاسية بعقد جلسة الثلثاء، وكان لها تأثير في «دوزنة» خطاب «اليرزة». وبعدما كان الموفد الأميركي توم برّاك استخدم «الشطرنج» و«طاولة الزهر» لتبيان الفارق بين مقاربة واشنطن الاستراتيجية ضمن دوائر تكاملية، ومقاربة بيروت المنفصلة عن تحوّلات المنطقة وسرعتها لـ«تزجية الوقت»، أجرى الرئيس جوزاف عون مناورة سياسية في حدود المتاح على طريقة لاعبي الشطرنج.
فرغم حرصه على التوازن الدقيق في الطرح، إلّا أنه استخدم مصطلحات أصابت «الحزب» في الصميم، من خلال الحديث عن أن إسرائيل لم تجد في الجيش «خائنًا واحدًا» رغم المعاناة الاقتصادية والمالية، غامزًا من قناة تفشّي العمالة في عمق بنية «الحزب»، وقبلها تفاخر «جنده» بالدولارات الخضراء في بدايات الأزمة. ناهيكم بالتصويب المباشر على خطابه المصحوب بـ «أدلجة» جماهيرية تصوّر الدولة بـ «العاجزة»، وشركاء الوطن المختلفين مع مشروعه بـ «عدوّ الداخل»، وتوصيفها بـ «الأوهام التي سقطت»، والتأكيد أن موقف «العهد» في منطقة تتأرجح بين حافة الهاوية وسلم الازدهار هو عدم التفريط بفرصة إنقاذ الدولة ورفض سياسة الانتحار.
في ذكرى شهداء الجيش رسم رئيس الجمهورية حدود المطلوب في جلسة الثلثاء «قرار تاريخي بتفويض الجيش وحده حمل السلاح وحماية الحدود» تاركًا هامشًا محدودًا للنقاش حيال كيفية تخريج هذا القرار رسميًا عبر برنامج تنفيذيّ مفصّل.
يمكن القول إن خطاب رئيس الجمهورية كان بمثابة نقلة استراتيجية في «لعبة الملوك»، نقل فيها «حصان» الدولة على «رقعة» المنطقة فوق رؤوس «بيادق» إيران لمحاصرة «حزبها» و«قلعة» مشروعها، قائلًا لملاليها «كش ملك»، أو «شاه مات» بالتعبير المتداول فارسيًا وتركيًا حينما يصير إنقاذ «الملك» مستحيلًا، في محاولة لمنع الملالي من نحر شيعة لبنان ودولته دفاعًا عن بقاء نظامهم، لإدراكه أن تعنّت «الحزب» مصدره طهران المهيمنة على قراره بالكامل بعد تصفية بنيته القيادية التي كان لها هامش من التأثير.
حجم التفاعل السياسي والشعبي الداعم لخطاب «اليرزة» أسّس لمناخ شبه إجماعي اخترق الحاضنة الشيعية، وجعل «حزب اللّه» في حالة عزلة غير مسبوقة في تاريخه. فسارع إلى إخراج ما في جعبته من أوراق، من بيان «علماء جبل عامل» النادر من نوعه للإيحاء بأن الصراع هو بين الدولة وطائفة بكاملها، إلى استنفار آلته الإعلامية لضخ سيناريوات فتنوية تخويفية، وصولًا إلى زيارة رئيس كتلته محمد رعد إلى «عين التينة»، ومنها إلى بعبدا برفقة «المعاون» علي حسن خليل.
تبيّن المصادر أنّ «الثنائي» كشفا أمام رئيس الجمهورية عن معلومات موثوقة «في حوزتهما» عن اشتراك سوريا في الهجوم الإسرائيلي المزمع حصوله بتنسيق أميركي، لاستهداف قواعد «الحزب» وخلخلة الحاضنة الشيعية. وهي المعلومات نفسها التي سارع وفيق صفا إلى إبلاغها لقائد الجيش العماد رودولف هيكل، في محاولة لتفعيل ضغط مزدوج على المستويين السياسي والعسكري للدفع باتجاه إقرار صياغة مطاطة.
في حين تدرج المصادر غارات إسرائيل المكثّفة على البقاع بالذات، وحديث وزير دفاعها عن استهداف خطوط إنتاج صواريخ دقيقة، ضمن إطار سياسة الضغوط المكثفة على «الحزب» للقبول ببرنامج لتسليم سلاحه على طاولة مجلس الوزراء، بينما أثبتت وقائع الصراع أنها تمارس تهدئة خداعية لتضليل الخصوم حين تريد توجيه ضربات عسكرية حاسمة.
وسط الضغوط المتعارضة، نجحت مناورة رئيس الجمهورية في نقل مسألة «حصرية السلاح» إلى طاولة مجلس الوزراء بما يجسّد جوهر فلسفة «اتفاق الطائف» في احتضان هذه الطاولة المعبّرة عن ألوان الطيف اللبناني وتوازناته الدقيقة النقاشات في القرارات الاستراتيجية. بيد أنّ النجاح يبقى مقرونًا بالخروج بصياغة صلبة دون «مفخّخات» لغوية، تحظى على الأقلّ بعدم «ممانعة» «الحزب»، لإقناع أميركا بأننا نجيد «الشطرنج» كي لا تطلق «الفيل» الإسرائيلي لإخراجنا من اللعبة «صاغرين».