المصدر: نداء الوطن
الكاتب: كارين عبد النور
الجمعة 24 تشرين الثاني 2023 08:18:37
عامان وأشهر عدّة مرّت على الحادثة وكأن أيام العامَين والأشهر تلك تأبى أن تمرّ. هي تلك الطائرة التي سقطت في أحراج بلدة غوسطا الكسروانية في يوم مشؤوم من أيام تموز 2021. على متنها كان الشاب جاد موسى (مواليد 1999) وشقيقته جويل (مواليد 2001). الشقيقان لقيا حتفهما وكان ثالثهما الكابتن جورج شاركيجيان. الكابتن "راح... وراح سرّو معو". أما جرح أهل الشقيقين، فلم يلتئم بعد. كيف لا والملف أُقفل ببساطة على هذه الخلاصة: "التحليق في الغيوم أدّى إلى عدم دراية واضحة بموقع الطيران".
ندخل إلى منزل عائلة جاد وجويل فيطالعنا صمت حزين. يقودنا صداه بين جدران المدخل وصولاً إلى غرفة لا تتّسع لتلك الصور التي جمعتهما معاً، قبل أن يسرقهما الموت... أيضاً معاً. الصور هي كل ما تبقّى من هدوء ورصانة جاد وحركة وضحكة جويل. هي التي أحبّت الحياة بكل تفاصيلها وكأن الدنيا "ما كانت سايعتها". تُرى هل كانت تعلم أن رحلتها على الأرض ستكون قصيرة فأرادت أن تستفيد من كل تفصيل من تفاصيلها؟ هناك، في تلك الغرفة، يجتمع أفراد العائلة: الوالد والوالدة، والخالة والخالان. إنه منزل الجدّ والجدّة حيث يقطن الجميع حالياً. فمنذ ذلك اليوم التعيس والأهل أعجز من أن يتعايشوا مع الصور المتناثرة في زوايا منزلهما. تسترسل الوالدة في الحديث والدموع تنهمر من عينيها. تسرد لنا قصصاً وحكايات وكأنها في سباق مع الذكريات. ذكريات بدت وكأنما تلهث الأم خلفها علّها تستولدها واقعاً. "خلّيها تفضفض وتحكي، يمكن هيك بترتاح"، يقول لنا الخال. أما الوالد، فصمته العميق، وهو مطأطئ الرأس، يشعرك بالرهبة. رهبة تعكس ذلك الأسى وتلك الغصّة. أسى من خسر "شمعتين عشنا كرمالن، ربّيناهم كل شبر بندر وكانوا كل شي بحياتنا".
كانوا الحلم... والحلم ضاع
نعود إلى ذلك الخميس في الثامن من تموز 2021. فماذا تخبرنا الوالدة سلمى؟ كان من المقرّر أن يذهب جاد وجويل إلى البحر يومها. غير أن جورج، رفيق جويل الحائز على شهادة وترخيص يخوّلانه قيادة الطائرات السياحية، دعاها للقيام بجولة في الطائرة لمدّة نصف ساعة. "بداية، رفضت الفكرة بشكل قاطع، لكن إصرار جويل على خوض التجربة جعلني أوافق. وقلت لجاد: "ما تترك أختك تروح وحدها"، وهيك صار. ما قِبلوا إلا إنّو يفلّوا سوا من هالدني متل ما كانوا يضلّوا دايماً سوا". تتذكر الأم يوم الأربعاء، أي اليوم السابق لموعد الرحلة، حين استيقظت جويل صباحاً مرتعبة بسبب حلم مزعج راودها. "قلتلّها ما تفكري فيه وما تحكيه لحدا، وراحت من دون ما أعرف شو كان المنام"، تقول الوالدة ثم تجهش بالبكاء. وتتابع: "حتى أنا ما نمت ليلتها، كان في شي شِعلان بقلبي. وشفت بمنامي لحمة حمرا وكل أموات العيلة يلّي سبقونا... بس ما فكّرت للحظة أنو ممكن يكون يلّي عم يصير إشارة كان لازم انتبه لها".
تصرّفات جاد وجويل كانت غريبة بعض الشيء ذلك الأسبوع. فجاد، الذي لم يحبّ يوماً أكلة "الكوسا المحشي"، تذوّقها للمرّة الأولى من يد خالته، كما تخبرنا. "استغربْت كيف أكل منّا وأخذ معو عالبيت. بتذكّر قبل الحادثة بِكَم يوم كيف كان حابب تضلّ العيلة مجتمعة. يكون بعدو رايح من عندي، ما لاقيه غير جايي ياخدني لَعِندن". ثم تضيف الوالدة وعيناها مسمّرتان على صورة جاد كيف كان يأتي ليقبّلها وهي تقوم بتنظيف المنزل، وتتنهّد قبل أن تنتقل إلى صورة جويل ماسحة دموعها: "آخر أسبوع ما لاقيها غير عم تتّصل فيّي عالشغل وتقلّي سلّيني ماما، أنا ضجرانة. وأنا بيني وبين حالي قول مش معقول جويل تضجر. جويل يلّي متل الفراشة بتضلّ بين رفقاتها وأصحابها". صباح ذلك الخميس، وقبل توجّهها إلى العمل، فتحت الوالدة باب غرفة جاد وجويل وهما نائمان. استرقَت نظرة اطمئنان وغادرت وهي لم تعتد القيام بذلك قبلاً. لكنها لم تكن تعلم وقتها أنها تسترق نظرة الصباح الأخير. "لو خبّرونا عن الرحلة ما كنّا سمحنالن يروحوا... بحياتن ما خبّوا شي علينا. كنّا متل إخوتن... وبعدني لهلقّ بسأل حالي ليش هالمشروع بالتحديد ما قالولنا عنّو"، والكلام لأحد الأخوال.
وبينما كان يقلّب بين محطات التلفزيون، وقع نظر الوالد حنا على الخبر. نزل إلى الطريق وراح يركض ويصرخ. أدرك في تلك اللحظة أن "الحلم ضاع"، وسيبقى ضائعاً في غيابهما. "ليش الله عطانا إياهن لما بدّو ياخدن منّا، وياخدوا كل شي فينا معُن؟". سؤال طرحته الوالدة قبل مغادرتنا، لتنهي: "ما بعرف ليش الله عم يطوّل بعمرنا... نحنا لمين بعد بدنا نعيش؟ كل شي صار أسوَد بغيابُن، مشتاقة ضمّن وشمّ ريحتن على تيابُن". نغادر منزل الأهل ونحاول البحث عن إجابات أرضية... لا سماوية.
الحقّ على الطيّار؟...
عودة سريعة إلى تفاصيل الحادثة. فبعد أن تلقّى جاد وجويل دعوة من صديقهما جورج للقيام بجولة سياحية ذلك الخميس، وإذ كان من المفترض أن تقلع الرحلة من مطار بيروت في تمام الساعة العاشرة والنصف صباحاً، تأخّر الانطلاق حتى الساعة الواحدة ظهراً. أسباب التأخير لا تزال مجهولة. وفي حين أن المسار كان مقرّراً فوق البحر باتّجاه جبيل، غير أن جورج اتّصل ببرج المراقبة طالباً العودة إلى المطار نظراً لرداءة الرؤية. وفي طريق العودة، طلب الحصول على إذن للبقاء فوق منطقة جونية لمدة عشر دقائق. بيد أن الطائرة خرجت عن مسارها واتّجهت صوب حريصا دون أي تنبيه من قِبَل المراقبين الجويّين بأنها على وشك الارتطام بالجبل. فُقد الاتصال مع جورج، فاصطدمت الطائرة بسفح جبلي في غوسطا عند الساعة الواحدة والخمسين دقيقة، والنتيجة يعرفها الجميع.
كَثرت التساؤلات حينها عن الملابسات والأسباب. فهل صحيح أن جورج لم يكن مؤهّلاً للقيادة بعد؟ أم أن عطلاً قد طرأ على الطائرة؟ ثم ماذا عن الصيانة؟ وهل أن الضباب الكثيف كان السبب؟ لمزيد من التفاصيل، تواصلت "نداء الوطن" مع الوكيل القانوني لوالد الشقيقين، المحامي جان نمّور. ونسمع بأنه جرى تقديم ادّعاء ضدّ مجهول وكل من يظهره التحقيق متورّطاً في هذه القضية، وأن الأمور ما زالت عالقة بانتظار تحويل الملف إلى قاضي التحقيق في جبل لبنان. ويذكر نمّور أن النيابة العامة الاستئنافية اتّخذت، بعد وقوع الحادث، قراراً بإحالة الملف إلى مطار بيروت لإجراء التحقيقات المعمّقة. وعلى الأثر، تمّ تعيين لجنة تحقيق مؤلّفة من ستة أشخاص وقد أصدرت تقريرها النهائي بتاريخ 14/4/2022.
أبرز ما جاء في تقريراللجنة يُختصر بأن العوامل التي ساعدت على الارتطام هي قلّة الخبرة لدى الطيار وعدم تمكّنه من تجاوز الظروف المناخية غير المتوقّعة؛ الثقة المفرطة وحبّ الاستعراض لديه؛ ارتفاع منسوب التوتّر بسبب التأخير في الإقلاع والظرف المناخي؛ ناهيك بعدم وجود خرائط طيران. حاولنا التوجّه إلى رئاسة المطار، فاكتفت بالتأكيد على مضمون التقرير. إلّا أن مصادر متخصّصة أفادت "نداء الوطن" بأن التقرير صدر عن لجنة قوامها موظفون في مطار بيروت، ما يطرح إشكالية مدى حياديتها ومصداقيتها. إضافة إلى أنه لم يتمّ التطرق إلى ذكر احتمال وجود خطأ ناتج عن النقص في عديد المراقبين الجويّين. إذ من مسؤولية هؤلاء تنبيه قائد الطائرة حول عدم صحة المسار تفادياً لوقوع الارتطام. أما مدى مسؤولية سلطات المطار عن الحادث، فلم تُبحث. لا بل جرى تحميلها بالكامل للطيار.
ما دور (نقص) المراقبين؟
في تشرين الأول من العام نفسه، أي بعد ثلاثة أشهر تقريباً على حادثة غوسطا، سقطت طائرة لبنانية مدنية قبالة شاطئ حالات موقعة ضحايا. وفي آب 2023 سقطت مروحية للجيش اللبناني قرب ثكنة حمانا العسكرية ما أدّى إلى استشهاد عسكريَّين وإصابة ثالث. فتكرار حوادث مماثلة – مدنية أوعسكرية - إنما يدلّ على وجود مشكلة جدّية في إدارة القطاع ككلّ، وخصوصاً في ما يتعلّق بالمراقبين الجويّين. وفي تقريرها الصادر في آب الماضي، سلّطت وكالة سلامة الطيران التابعة للاتحاد الأوروبي (EASA)، ومنظمة الطيران المدني الدولي (ICAO)، الضوء على عدم كفاية إجراءات السلامة العامة في مطار بيروت وضرورة اتّخاذ إجراءات عاجلة. وقد تبيّن أن لبنان حصل على درجة 58.5 في ما يتعلّق بسلامة الطيران، في حين أن المتوسط العالمي هو 69.8. كما أشار التقرير إلى أن النقص في عديد مراقبي الحركة الجوية يمكن أن يكون ذات تداعيات خطيرة. وهو ما يؤكّد ضرورة توظيف واستبقاء الموظفين المؤهلين وذوي الخبرة.
يبقى أن مشكلة المراقبين الجويّين في المطار ليست مستجدّة. لكنها تفاقمت بعد الأزمة الاقتصادية، حيث أدّى تخفيض الرواتب إلى مغادرة معظم هؤلاء. فعددهم الحالي يبلغ 15 مراقباً جويّاً معتمداً، بينما تستدعي المتطلبات ما لا يقلّ عن 87 مراقباً. وبحسب التقرير، فإن تراجع الأعداد قد تسبّب بنوبات عمل طويلة حيث يعمل مراقب الحركة الجوية 5 ساعات دون استراحة، ويتراوح عدد ساعات العمل بين 72 إلى 96 ساعة أسبوعياً. في حين يُنصح بأن يكلَّف المراقب بأربع نوبات عمل أسبوعية، مدّة كل منها 8 ساعات، يتبعها يوما راحة، ويتخلّل كل ساعة ونصف من العمل نصف ساعة من الاستراحة. وحيث يجب أن تضم كل نوبة عمل ما لا يقلّ عن أربعة مراقبين، تتضمّن النوبة في المطار مراقباً واحداً ومساعداً. ورغم النقص الفاضح، لم يجرِ تعيين بدلاء محليّين كما أن التوظيف من الخارج مكلف للغاية. أما فرضية ألا يكون جميع المراقبين من حملة الشهادات اللازمة التي تخوّلهم القيام بواجبهم، فبحث آخر.
هناك من يتكلّم عن عوائق طائفية وخوف من إحداث خلل مذهبي داخل المطار كسبب وراء عدم تعيين مراقبين جويّين. علم النفس، من ناحيته، يتحدّث عن ﻣراﺣل ﺧﻣس للحزن: اﻹﻧﻛﺎر، اﻟﻐﺿب، اﻟﻣﺳﺎوﻣﺔ، اﻻﻛﺗﺋﺎب واﻟﻘﺑول. أهل الضحايا عالقون بين براثن المراحل تلك. والمآسي تتكرّر لأن العوائق والمخاوف والمماطلة عندنا أقوى من أي شيء آخر.
بطاقة هوية
الطائرة التي تحطّمت أميركية الصنع، من نوع Cessna 172S، وتابعة لشركة الأجواء المفتوحة (Open Sky Aviation). الأخيرة شركة للتدريب على قيادة الطائرات. والطائرة، غير المزوّدة بصندوق أسود، تسجّل المسار وجميع الاتصالات مع برج المراقبة.