رفع الفوائد الأميركيّة مجددًا: العرب يتأهبون ولبنان خارج التاريخ

أقرّ المصرف المركزي الأميركي يوم الأربعاء الماضي أكبر زيادة في معدلات الفائدة منذ العام 1994، حين رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي معدل الاقتراض القياسي بمقدار 0.75% دفعة واحدة. مع الإشارة إلى أنّ جميع التحليلات كانت قد رجحت أن تقتصر هذه الزيادة على نحو نصف نقطة مئويّة، إلا أنّ قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي فاق جميع الترجيحات السابقة، وهو ما أثار اضطراباً واسع في الأسواق.

عوامل داخليّة وآثار عالميّة
في كل الحالات، كانت هذه المرّة الثالثة هذه السنة التي يقرّر فيها الاحتياطي الفيدرالي رفع معدلات الفوائد المستهدفة هذه السنة، بعدما رفعها بمقدار ربع نقطة في شهر آذار الماضي، وبنصف نقطة في شهر أيّار. وبعد الزيادة الأخيرة يوم الأربعاء، والتي كانت الأعلى هذا العام ببلوغها ثلاث أرباع النقطة، ارتفع النطاق الأعلى للفوائد المستهدفة إلى حدود 1.75%، وسط توقعات بارتفاعات إضافيّة في الفوائد الأميركيّة هذا العام، إلى حين بلوغ الفائدة المستهدفة مستوى 2%.

مجددًا، تندرج كل هذه الزيادات في إطار سعي الاحتياطي الفيدرالي للتعامل مع معدلات التضخم المرتفعة، عبر رفع الفوائد لامتصاص السيولة من السوق ولجم الطلب. فرفع الفوائد يعني تلقائيًا سحب النقد وامتصاصه على شكل ودائع، ولجم الاقتراض، ما يعني في الحالتين الحد من تضخّم الكتلة النقديّة وخفض التضخّم. إلا أن خطوة رفع الفوائد المدفوعة بحسابات أميركيّة داخليّة، باتت تترك أثرها على جميع الأسواق العالمية من دون استثناء، وخصوصًا الأسواق النامية الأكثر اعتمادًا على الاقتراض الخارجي وتدفقات العملة الصعبة الواردة، والتي تعاني أساسًا من عجوزات في ميزان مدفوعاتها.

لكل هذه الأسباب، استنفرت الدول العربيّة خلال الأسبوع الماضي للتعامل مع هذه التطورات المستجدة، والتي بدأت تترك آثارها على أنظمتها الماليّة والمصرفيّة، ناهيك عن التداعيات الأخطر على مؤشراتها الاقتصاديّة الأخرى وميزانيّاتها العامّة واستدامة ديونها السياديّة.

مصارف الخليج ترفع فوائدها فورًا
مصارف الخليج، الأكثر اتصالًا بالأسواق الماليّة العالميّة، والأكثر تأثرًا بحركة السيولة فيها، سارعت إلى رفع فوائدها منذ يوم الأربعاء الماضي، بمجرّد اتخاذ مجلس الاحتياطي الفيدرالي هذا القرار. فعدم رفع الفوائد على الودائع بالعملات الصعبة، سيعني تلقائيًا هجرة هذه الرساميل إلى الأسواق الغربيّة، وهو ما قد يدفع أنظمة الخليج المصرفيّة إلى أزمة سيولة لا تُحمد عقباها.

لهذا السبب، سرعان ما قرّر مصرف البحرين المركزي هذا الأسبوع رفع "سعر الخصم" (أداة تحديد معدل الفوائد) بـ0.75%، ليصبح هذا السعر عند حدود 3.75%. كما رفع بنك الكويت المركزي هذا المعدّل بنسبة ربع نقطة مئويّة، ليصبح عند حدود 2.25%. أما مصرف الإمارات المركزي فرفع معدّل الفائدة الأساسي بنحو ثلاث أرباع نقطة مئويّة، فيما رفع البنك المركزي السعودي أسعار الفائدة الرئيسيّة بنحو نصف نقطة أساس. في المقابل، رفع بنك قطر المركزي سعر فائدة الإيداع بثلاث أرباع نقطة مئويّة، كما رفع كلفة الاقتراض من المصرف المركزي بنحو نصف نقطة مئويّة.

في النتيجة، ضغطت جميع هذه التطورات على بورصات الدول الخليجيّة التي سجّلت خلال الأسبوع الحالي معدلات متفاوتة من التراجع، مع توقعات بمزيد من التراجع خلال الأسابيع المقبلة نتيجة هذه القرارات على السيولة المتوفّرة في أسواق المال. أمّا الآثار الأهم، فستطال كلفة الاقتراض من النظام المالي وأسواق المال، وبالتالي كلفة تمويل المشاريع الكبرى في هذه الدول، ناهيك عن كلفة الاستدانة التي ستؤثّر على ميزانيّات الأسر.

مصر المتضرّر الأكبر
وفق جميع الترجيحات، ستمثّل مصر المتضرّر الأكبر من هذه التطوّرات، خصوصًا أن الدولة المصريّة ستحتاج إلى اقتراض ما يقارب 30 مليار دولار خلال السنة الماليّة المقبلة، التي تبدأ في شهر تموز، لتمويل العجز في ميزانيّتها. وبالتالي، فهذا النوع من القرارات، سيعني تلقائيًّا رفع كلفة الاقتراض لسد هذه الفجوة في الميزانيّة، ناهيك عن الصعوبات الناشئة عن شح العملة الصعبة نتيجة حركة السيولة باتجاه أسواق الدول المتقدمة، بعد رفع الفوائد فيها. في المقابل، سيكون على النظام المالي المصري مواكبة الارتفاع العالمي في أسعار الفوائد، للحفاظ على السيولة المتوفرة بالعملات الأجنبيّة، وهو ما سيكبّد البلاد المزيد من الأكلاف في سبيل منع سيناريوهات الانهيار المالي الشامل.

تونس: ضغوط معيشيّة متوقعة
لأوّل مرّة منذ 2019، قرر المصرف المركزي التونسي رفع معدل الفائدة الرئيسي بنحو 0.75%، لتصبح عند حدود 7%، وهو ما ترك أثره سريعًا على كلفة فوائد القروض الطويلة الأجل، التي يُعاد تحديدها دوريًّا حسب تغيّر معدل الفائدة الرئيسي. ومن هذه القروض الطويلة الأجل، تندرج القروض السكنيّة، التي ترزح تحت فوائدها الأسر التونسيّة.

وبما أنّ المجتمع التونسي معروف بارتفاع نسبة اقتراض الأسر فيه، حيث تندرج 60% من الأسر التونسيّة في عداد المقترضين من المصارف، سرعان ما أدّى قرار المصرف المركزي التونسي إلى موجة من الانتقادات الشعبيّة، التي تساءلت عن مدى قدرة الأسر التونسيّة على تحمّل الأعباء التي ستتزايد نتيجة هذا القرار. وتشير البيانات الرسميّة التي ينشرها المصرف المركزي التونسي إلى أن معدّل الفائدة الرئيسي لديه ارتفع خلال السنوات الخمس الماضية من 4.75% إلى 7% اليوم، وهو ما يؤشّر إلى كيفيّة تزايد أعباء الفوائد التي يعاني منها التونسيّون.

السودان يحبس أنفاسه
يعاني السودان أساسًا من مشاكل تهدد أمنه الغذائي، إذ تستورد البلاد نحو 90% من حاجتها الغذائيّة، فيما يقتصر إنتاجها المحلّي على نحو 5% فقط من هذه الحاجة. أما رفع الفوائد العالميّة، فسيعني بالنسبة إلى السودان المزيد من شح العملة الصعبة محليًّا، والمزيد من الضغط على سعر صرف العملة المحليّة، وزيادة في الصعوبات التي تحول دون تأمين حاجة البلاد من المواد المستوردة. مع الإشارة إلى أن قيمة الناتج المحلّي السوداني انخفضت إلى نحو 13 مليار دولار فقط، بعدما كانت هذه القيمة توازي نحو 108 مليار دولارات في شباط من العام الماضي، أي قبل أن يقوم السودان بتخفيض قيمة عملته المحليّة.

لبنان خارج التاريخ
في جميع الدول العربيّة، تطرح المصارف المركزي والحكومات هواجسها إزاء رفع الفوائد في الولايات المتحدة الأميركيّة، والتي سيوازيها حكمًا ارتفاع مواز في فوائد الأسواق الغربيّة أخرى. وحده لبنان، الذي يعاني من أحد أكبر الانهيارات الماليّة والنقديّة التي عرفها التاريخ، يبدو غير معني بما يجري، رغم الأثر الكبير الذي ستتركه هذه التطورات على كلفة وإمكانيّة تطبيق خطّة التعافي المالي. باختصار، لا أحد في البلاد يناقش أو يفكّر في طبيعة التداعيات التي سيتركها انقلاب حركة السيولة باتجاه الأسواق الغربيّة، ولا في أثر هذه التحوّلات على حجم التحويلات التي ترد سنويًّا إلى البلاد. لا أحد يفكّر حتّى في أثر تراجع التحويلات الواردة على سعر صرف الليرة، أو إمكانية نهوض القطاع البلاد.

للحظة من الزمن، يخال المرء نفسه أمام بلاد باتت خارج التاريخ.