المصدر: نداء الوطن
الكاتب: عيسى يحيى
الاثنين 16 كانون الاول 2024 07:01:20
اتسع مسرح الأحداث الداخلية ليشمل لبنان وسوريا معاً. وبدا أن تزامن تطبيق وقف إطلاق النار في لبنان في 27 تشرين الثاني الماضي وانطلاق مسار الثورة السورية في اليوم نفسه ما أطاح بطاغية سوريا بشار الأسد، إيذان بتفاعل الأحداث في البلدين معاً. وأتت الأنباء في نهاية الأسبوع الماضي لتعطي نموذجاً عن هذا التفاعل وأبرزها زياراتان مرتقبتان لمفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان والزعيم الإشتراكي وليد جنبلاط لدمشق للقاء قائد الإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع (الشيخ أبو محمد الجولاني). وهذا التطور يفتح الأفق أمام زيارات أخرى .
وأعلنت مصادر الاشتراكي أنَّه جرى خلال الاتصال "الاتفاق على زيارة قريبة لجنبلاط إلى دمشق من أجل استكمال التواصل والتنسيق، كما جرى التطرق إلى أهمية إرساء أسس التعاون ورسم مستقبل العلاقات بين البلدين على قاعدة الاحترام المتبادل".
يهمس كثر من أبناء الطائفة السنية، بأن هناك فرقاً في التفاعل مع انتصار للثورة السورية بين أبناء الطائفة وبين بعض السياسيين ورجال الدين. ويرى هؤلاء أن "التأنّي" في أخذ الموقف المؤيد للثورة، لن يزيد السنّة إلا تهميشاً، في وقتٍ يحتاجون فيه إلى شد أزرهم، والتماس اللحظة الإقليمية التي تعيدهم أصحاب قرار وتأثير.
يتعطش سنّة لبنان إلى شخصية قيادية يلتفون حولها على اختلاف مناطقهم وتوزعهم الجغرافي، تشبه القائد العام لإدارة العمليات العسكرية في سوريا حالياً أحمد الشرع قلباً وقالباً، من دون إلباسها الصبغة الدينية المتشددة، وذلك بعد حال التشرذم الذي وصلوا إليه في لبنان، نتيجة غياب الرئيس سعد الحريري واعتكافه، ووجود زعامات سنية مناطقية لم تخرج من مدنها التي أوصلتها إلى المجلس النيابي، كي ترعى شؤون وشجون أبناء الطائفة على امتداد الوطن، وسط محاولات دينية لتأدية هذا الدور من دون أن يكتب لها النجاح.
يدور همس في الجلسات الخاصة السنية، حول غياب أي تصريح أو بيان لمفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان بعد سقوط نظام الأسد، وانتصار الثورة السورية، تأييداً ومباركة، فهو المرجعية الأولى للطائفة. ولطالما ارتبط هذا المقام تاريخياً بدمشق دينياً. والساحة السنية حالياً في أسوأ حالاتها، وتحتاج نفيراً يلبي طموحات أبنائها الذين ارتشفوا الأمل بعودة الشام وديارها، حيث فاقت فرحتهم، ابتهاج السوريين أنفسهم بالنصر.
تشهد الساحة السنية بجناحَيها الديني والسياسي على دور نظام القتل السوري، في إقصاء كافة الشخصيات ذات الكاريزما والتأثير في الشارع السني اللبناني، فلا مكان لمن يقفز عن ظهر الأسد، وكان يجب على السنة في لبنان أن يبقوا تحت وصاية النظام الأسدي وفق ما تقتضيه مصلحته. وإلى جانب المصلحة، كان لدى النظام البائد خوف من ظهور شخصية سنية قادرة ومؤثرة تهز عرش الأسد، لذلك جرى اغتيال الشيخ صبحي الصالح على يد المخابرات السورية عام 1986، وهو الشخصية الدينية والأكاديمية التي كان لها التأثير الأبرز في لبنان خلال الحرب في سبعينات القرن الماضي، وكان رجل العلم في وجه رجال الظلم والجهل والاستبداد.
بعد ذلك، تلقى السنة الضربة الثانية باغتيال المفتي حسن خالد. ولم يكن تاريخ الأخير موفقاً مع النظام الأسدي، فانتفاضة المفتي حسن خالد على سياسة النظام البائد بدأت بقمتي عرمون بين عامي 1976 و1977 اللتين كان أساسهما الحوار الوطني، ثم أتت جولته العربية لنقل هموم اللبنانيين وهواجسهم، فدفع حياته ثمناً عام 1989على يد السوريين، بتفجير سيارته ما أدى إلى مقتله، وبقي هذا الأسلوب الوحشي ضمن السلوك الإجرامي الفعلي للنظام حتى آخر عهده. في المقابل، لم يتعاطَ أعلى مقام روحي لبناني الدين فقط، ولطالما نادى المفتي خالد بقيام دولة المؤسسات وبسط الدولة سلطتها، محذراً من الميليشيات التي كانت تتبع للنظام السوري وهي ذات طابع إسلامي متشدد.
كانت الزيارة الأخيرة لمفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني إلى سوريا في آب عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وانقطعت بعدها زيارات أعلى مقام ديني في لبنان إلى سوريا، كونها المتهم الرئيسي في تصفية زعيم السنّة الأول في لبنان. وبدأت بعد ذلك العلاقة بين المرجعية الدينية السنية وبين النظام الأسدي تبرد حتى بلغت حد الانقطاع منذ اندلاع الثورة السورية التي أيدها رجال الدين السنّة على اختلاف مقاماتهم بوجه عصابات الأسد.
يفرض الواقع الحالي تحركاً لمفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان نحو سوريا الجديدة، وإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه. وتشير مصادر دار الفتوى لـ "نداء الوطن" أن الصورة التي قدمتها اليوم الثورة في سوريا مختلفة عن الصورة السابقة، وعمل قادة الثورة على تحديث صورتهم باعتراف أميركي، علما أن البعض توجس خيفةً من الثورة في سوريا بسبب خلفيتها الإسلامية، لكن ما حصل بعد سقوط المدن تباعاً من دون مقاومة تذكر، قدّم صورة إيجابية على ما اصطلح بتسميته الإسلام السياسي. كما أن هيئة تحرير الشام غيرت اسمها واعتبرت أن إطارها سوري، وفصلت نفسها عن كل الأطر الأخرى التي تتحرك على مستوى العالم العربي والإسلامي، بالرغم من أن الهم الأسلامي والعربي حاضر في أدبياتها، من دون أن ننسى تجربتها الناجحة في إدلب التي فصلت بين ما هو عسكري وما هو إداري وخدماتي، وما حدث خلال الأيام الأخيرة أثبت أنها تعمل بطريقة مختلفة.
وحول موقف دار الفتوى، أكد المصدر أن موقفها كان داعماً للثورة السورية منذ اليوم الأول، لكن كجهة رسمية دينية لا تستطيع أن تكون كالشارع، ويأتي دورها في إطار ضبط وتوجيه الشارع، وسط الانقسام العمودي في الداخل اللبناني بين معارض للنظام ومؤيد له، وقالت: "نحن نسعى لئلا تكون هناك ردود فعل في الشارع، على قاعدة أنه عندما سقط النظام، عليّ أن أحترم قرار الشعب السوري، ومن يعتبر نفسه معنياً ومرتبطاً بالنظام، نقول له أن هذا النظام هو من أسقط نفسه بنفسه بسبب استبداده وطريقة حكم البلاد. إن المرحلة تفرض مزيداً من التحديات، فهناك تحولات كبرى على مستوى الإقليم، وواضح أن هناك دولاً ترعى حركة الثوار وتهتم بهم، وتوجههم نحو التوجه السليم".
وحول موقف مفتي الجمهورية، أكدت أن رسالة المفتي كانت واضحة عند زيارته الأخيرة لضريحي الرئيس رفيق الحريري والمفتي حسن خالد، في إشارة إلى أن المتهم باغتيالهما هو النظام السوري، ورأت المصادر "أن القادم من الأيام سيشهد خطوات عملية تجاه ما حصل في سوريا، وستتوج بزيارة المفتي دريان على رأس وفد من مفتي المناطق قريباً إلى دمشق، فنحن نعتبر سوريا عمقنا ولا يمكن أن نتخلَّ عنه، وهناك تواصل مع دمشق".
وختمت مصادر دار الفتوى أنه مع هذا التحول الذي حصل في سوريا يشعر المسلمون السنة في لبنان بأنه يصب في مصلحتهم، وسيتجلى ذلك في الأيام المقبلة، فالنظام السابق ترك آثاراً سلبية في الشارع السني وكان معادياً له، إضافةً إلى الاختراقات السابقة عبر التيارات والأحزاب التي تم إاختراعها، فكان عملها منصبٌ ضد السنة، وكانت عناوينها في مكان آخر.