المصدر: المدن
الكاتب: فاطمة حيدر
الجمعة 15 نيسان 2022 18:22:12
ليس مستغرباً أن تصدر السلطة اللبنانية قراراً جائراً جديداً بحق أهالي وشهداء انفجار مرفأ بيروت، يتضمن هدم إهراءات القمح في المرفأ، الشاهد الوحيد على مجزرة 4 آب 2021 التي أودت بحياة أكثر من مئتي شخص. وما يدعو للشك هو دوافع القرار الرسمية المعلنة، فحسب التصريحات الرسمية إن خلفية القرار يعود إلى الخوف النابع من المسؤولين على "السلامة العامة"، من جراء انهيار الاهراءات "الآيلة للسقوط"، حسب ادعاءاتهم.
تقرير "خطيب وعلمي"
في تفاصيل القرار وخلفياته، أصدرت الحكومة اللبنانية وبشكل فوري في جلستها الحكومية أمس الخميس، موافقتها على هدم إهراءات المرفأ. وكلّفت مجلس الإنماء والإعمار الإشراف على عملية الهدم، من دون تحديد موعد.
يستند قرار الحكومة الذي مهدت له منذ أشهر على تقرير فني وضعته شركة "خطيب وعلمي" للاستشارات الهندسية، "يحذر من أن الاهراءات يمكن أن تسقط بعد بضعة شهور وأن الابقاء عليها يرتب مخاطر على السلامة العامة بينما ترميمها سيكلّف كثيراً". علماً أن لتلك الشركة تاريخ حافل من الشبهات في إدارتها.
ولأن أي قرار يخص مرفأ بيروت يمسّ كل لبناني بشكل عام وعائلات شهداء المرفأ وشهداء فوج الاطفاء بشكل خاص، هنا وجب التساؤل من مبدأيْ الشفافية وحق الوصول إلى المعلومات: هل استند قرار دولة في ما يخص مجزرة موصوفة بأنها جريمة العصر، على تقرير فني واحد؟ ما وراء ضبابية الإعلان واقتصاره على تصريح مبسط ضمن جملة قرارات تلاها وزير الاعلام زياد مكاري؟ أين الأدلة والدراسات والوثائق التي تثبت خطورة الاهراءات على السلامة العامة؟
مناقصة للهدم
في مقابل الحديث عن هدم الإهراءات من أجل السلامة العامة، كان تصريح سابق لوزير الاقتصاد أمين سلام أكثر واقعية. شرح سلام أن الحكومة والوزارات المعنية تجري مناقصة لاختيار شركة تتولى عملية هدم الإهراءات في المرفأ، على أن تدر العملية ملايين الدولارات من جمع ما تبقى بعد عمليات الهدم من حديد ومكونات أخرى، وبالتالي تغطي تلك الملايين "كلفة الهدم". وبعدها، تباشر الحكومة بمناقصة إعادة الاعمار التي تتنافس الشركات المحلية والأجنبية عليها.
الأهالي: العدالة أولاً
ما هو المشروع البديل لهدم الاهراءات؟ أرادت الحكومة امتصاص غضب أهالي شهداء انفجار المرفأ عبر الإعلان عن إقامة نصب تذكاري في المكان وتكليف وزارة الثقافة بإعداده، لكنها لم تنجح. من مكان الجريمة، من مرفأ بيروت أما تمثال المغترب تحديداً، صدح صوت أهالي شهداء المرفأ فور إعلان القرار "لا لهدم الاهراءات.. نرفض النصب التذكاري".
تحدث أهالي شهداء انفجار مرفأ بيروت عن سببَين مهمين وراء موقفهم المعارض لهدم الاهراءات، أولاً: الاهراءات هي الشاهد الوحيد على الجريمة. وهذا القرار يعني أن الدولة تريد طمس الحقيقة ووضعها في مرمى النسيان. الإهراءات هي واجهة الحدث والمرآة التي تعكس بشاعة المجزرة وبشاعتهم. ثانياً، رفض الهدم يأتي في سياق التعبير عن احتجاج الاهالي على عرقلة التحقيقات وتوقفها. إذ يطالب الأهالي بالإفراج عن قرار التشكيلات القضائية المتعلقة بالملف، ويؤكدون أنهم لا يريدون استملاك المرفأ. وجل ما يطالبون به هو زج قتلة الشهداء إلى حيث ينتمون خلف القضبان.
"هي جزء من ذاكرة مدينة.. آخر عمل قام به إبني قبل استشهاده هو تصوير الاهراءات.. عدا عن أن أشلاء أولادنا ما زالت داخل مبنى الإهراءات ونحن ممنوعون من الدخول"، تؤكد السيدة ميراي خوري والدة الشهيد الياس خوري في حديث لـ"المدن" على أهمية القيمة المعنوية للإهراءات بالنسبة إلى أهالي الشهداء. وتضيف "ملف التحقيقات متوقف منذ أشهر وهم يتخذون قرارات جديدة ظالمة بحقنا.. وقاحة لم يشهدها التاريخ".
بدورها، تهزأ السيدة زينة نون، والدة الشهيد رجل الإطفاء جو نون، من حجة "السلامة العامة". هي تتمنى لو أن الدولة راعت مصلحة مواطنيها حين علمت بوجود نيترات الأمونيوم في عنبر مجاور لاهراءات المرفأ، تهدد سلامة مدينة وعاصمة بأكملها: "لم يكن ليستشهد إبني ومعه الكثيرين.. أولادنا استشهدوا نتيجة الإهمال ونريد من الأجيال القادمة أن تشاهد ما فعله الحُكام السابقون بأشقائهم"، تقول زينة لـ"المدن".
في مقاربة أخرى، يقول السيد عبدو متى والد الشهيد جورج متى إن هناك مبانِ عديدة في بيروت آيلة للسقوط، أليست الأولوية هي لهدم تلك المباني وإعادة إعمارها؟ ويشرح في حديث لـ"المدن" أن هذه المباني تشكل خطراً حقيقياً على مئات الأهالي والسكان في كل يوم وفي كل ساعة، أما بالنسبة إلى المرفأ فإن الخطر إن وقع، فلن يقع على أحد، لا وجود لمباني أو مؤسسات مجاورة لمبنى الاهراءات.
"800 شخص تفجرت أجسامهم وفقدوا أولادهم وبيوتهم وأشغالهم"، جراء انفجار مرفأ بيروت، تقول رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً سيلفانا اللقيس. يستحق هؤلاء الضحايا العدالة. والعدالة تبدأ بعدم إخفاء آثار الجريمة ومعاقبة المسؤولين عنها، وفق اللقيس.
التدعيم وليس الهدم
من جهته، دحض نقيب المهندسين في لبنان عارف ياسين روايات السلطة في جزئيها المتعلقين باحتمال انهيار المبنى وكلفة التدعيم الباهظة، وتطرق إلى ثلاثة محاور في ما يخص قضية الاهراءات من ناحية الهندسة والإعمار:
أولاً، إن الجزأ الشمالي من الإهراءات (الجزأ الذي يميل) هو فعلاً غير مستقر ويشكل خطراً على السلامة. ولكن الحل يكمن في تدعيمه وليس هدمه. أما الجزء الجنوبي فهو مستقر. "أتحدى كل الخبراء المحليين والدوليين بقول العكس".
ثانياً، إن المبنى غير قابل للاستخدام والتخزين ولا يمكن ترميمه، ويمكن للحكومة إنشاء إهراءات عديدة في أماكن كثيرة ومنها البقاع.
ثالثاً، إن كلفة هدم الإهراءات أكبر بكثير من كلفة تدعيمها، بالإضافة إلى أن مساحة الإهراءات ليست كبيرة نسبةً إلى مساحة المرفأ: "ما يتججوا بالمساحات".
الصفقات مجدداً
وعن توقيت القرار وسرعة إقراره في الجلسة الحكومية، يقول مصدر خاص لـ"المدن" إن المسؤولين يريدون إجراء عقود وصفقات في أقرب وقت، إذ أن هناك مدة محددة للمناقصات سوف تنقضي خلال شهرين، نظراً إلى شروط المناقصات.
أتى قرار هدم الإهراءات بعد يوم على الذكرى 47 للحرب الأهلية في 13 نيسان التي خلفت ضحايا ومفقودين ما زال مصيرهم غير مكشوف حتى الساعة، وقبل شهر على انتخابات نيابية لا يعوّل اللبناني عليها لتحقيق مسار إصلاحي. لكن القرار المتخذ في توقيت انتخابي حرج يكشف أيضاً لامبالاة سياسية من قبل الدولة والمرشحين بقضية رأي عام وتأثيرها على أرقام الناخبين.
وسط كل هذا، ينتظر أهالي شهداء مرفأ بيروت صدور القرار الظني في جريمة انفجار المرفأ بفارغ الصبر، رغم أنهم لا يعولون عليه. هم مدركون للمسار القضائي في لبنان وتجاوزاته وعرقلته للعدالة، حين يمسّ شخصيات سياسية نافذة. لكنهم لن يستسلموا. ومع كل قرار جائر بحق الشهداء سينزلون إلى مكان الجريمة مرفأ بيروت، متوعدين بالتصعيد عبر التوجه إلى منازل الوزراء والمعنيين بالملف مطلع الأسبوع، في حال عدم رجوعهم عن قرار هدم إهراءات المرفأ.