"سرايا المقاومة": مشروع تطويع صيدا بين 7 أيار وعبرا… وما بعدهما

في الثالث من تشرين الأول، العام 1997، أطلق الأمين العام السابق لـ "حزب اللّه"، السيد حسن نصراللّه، في مؤتمر صحافي، "السرايا اللبنانية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي"، التي ستُعرف لاحقًا بـ "سرايا المقاومة"، كتشكيل "مقاوم عابر للطوائف". بعد أكثر من 25 عامًا على تأسيسها، وفي ذكرى مرور عام على اغتيال نصراللّه، اقتصر حضور "السرايا" في الحرب الأخيرة على "بيان" أشارت فيه إلى أنه "ننظر إلى المقاومة ‏باعتبارها مساحةَ تلاقٍ ووعي". لكن البيان "لطيف" اللهجة، الأقرب للغة الـ NGO منه إلى سرايا تعمل تحت إمرة "حزب اللّه" وأجندته، لا يعكس دور "السرايا"، فهي لم تكن لا مساحة وعي ولا تلاقٍ، ولا مساحة مواجهة لإسرائيل، بل مساحة اختراق للبيئات المناهضة لسلاح "حزب اللّه"، لتمارس دور جناح عسكري لـ "الحزب"، عبر شباب تمّ استغلالهم وتجنيدهم من تلك البيئات نفسها. في صيدا تحديدًا، كان الدور الأكبر، وكانت الكلفة الكبرى، المتمثلة بـ "تطويع" كامل لعاصمة الجنوب، تحت جناح "حزب اللّه".

فمن أحداث 7 أيار التي امتدّت إلى صيدا عام 2006، وصولًا إلى دور "سرايا المقاومة" قبل وبعد "أحداث عبرا" عام 2013، لم يكن الهدف إنهاء ظاهرة الشيخ أحمد الأسير وحسب، بل الإطباق "على المدى البعيد" على النفس الصيداوي المعارض لـ "حزب اللّه"، من أيّ جهة أتى، وذلك عبر أدوات عدّة، كان أبرزها "سرايا المقاومة"، أداة "الحزب" السنية التي وفرت عليه اشتباكات شيعية - سنية يتورّط فيها سلاحه في الداخل، فكان الاشتباك سنيًا - سنيًا، محيّدًا "حزب اللّه" عن الصورة مباشرة، ولو أن "السرايا" لم تكن إلا ذراعًا له.

تظهر السيطرة على صيدا إلى اليوم، بأشكال عدة، آخرها نشاط نفذته كشافة الإمام المهدي منذ أيام، لمعرض رسوم لنصراللّه في سوق صيدا. نشاط بقي الاعتراض عليه من أبناء المدينة "صامتًا"، على عكس حادثة الروشة في بيروت. فكيف أحكم "حزب اللّه" قبضته على صيدا عبر "سرايا المقاومة"؟ كيف تصاعد دورها؟ وما أبرز محطاتها؟ وما البديل الجديد لـ "حزب اللّه" لاستكمال استحكامه على عاصمة الجنوب، بعد شحّ تمويل "السرايا" وعودة مشايخ سنَة إلى مهنهم السابقة، بعد أن كانوا أبواقًا لـ "الحزب" ومؤسّسين أساسيين لـ "السرايا" في المدينة؟

جناح "حزب اللّه" السني 

أحد أوائل الشباب الصيداويين المتقدّمين للانضمام إلى "سرايا المقاومة"، العام 1998، يستذكر في حديث لـ "نداء الوطن"، المراحل الأولى للانضمام.

يومها نشرت قناة "المنار" التابعة لـ "حزب اللّه"، أرقام هواتف للراغبين في التقديم، فتحمّس الآلاف لـ "مقاومة" تسمح بانضمام عناصر من غير الطائفة الشيعة، وغالبية هؤلاء، كانوا آتين من خلفية أحزاب "مقاوِمة" لإسرائيل خلال الحرب الأهلية.

نظم "حزب اللّه" مواعيد لآلاف الشبان في مكاتب ضمن شقق مخصّصة لهذا الغرض، في الضاحية الجنوبية. في توصيفه للمقابلة الأولى، يقول سامي (اسم مستعار) "كانت كلّ غرفة، تحتوي على 3 ستائر تفصل بين المتقدّمين، وكلّ شخص منا، يحاوره محقق، يأخذ اسمنا، عنواننا، وبيانات دقيقة حول مسار حياتنا بل وتفاصيل حياة أفراد عائلتنا، وانتماءنا السياسي، وتختتم المقابلة بعبارة "منتواصل معك"، ومن كانت تجرى معهم مقابلة ثانية، كانت حظوظهم ترتفع بقبولهم في التصنيفات الأخيرة.

بعد قرابة 5 أشهر، بدأ تصنيف المتقدّمين. في حينه، لوحظ أن غالبية الشباب المنتمين إلى أحزاب "إسلامية"، تمّ استثناؤهم، في حين تمّ قبول من كانت انتماءاتهم لأحزاب وتنظيمات يسارية غير عقائدية كالتنظيم الشعبي الناصري، الذي تحمّس شبّان منه في صيدا للانضمام إلى "السرايا"، قبل أن تعمل الأخيرة بشكل ممنهج على استقطاب عناصر التنظيم إليها في السنوات التالية، وهو ما سيؤدي إلى توترات بين "السرايا" والتنظيم التابع للنائب أسامة سعد، ويتجلّى لاحقًا في معركة "نزلة صيدون" في 3/1/2013.

منذ تأسيسها حتى اليوم، لطالما حرص "حزب اللّه" على أن تكون "سرايا المقاومة"، تنظيمًا قائمًا بنفسه، مفصولًا تمامًا عن "حزب اللّه"، على مستوى عناصره، ومرتبطًا به عضويًا على مستوى الصف الأول من قيادات "السرايا" حصرًا، وهو ما ضمن لـ "الحزب" عنصرين أساسيين: ضمان أمنه، عبر تنظيم لا يستطيع عناصره اختراق تنظيم "حزب اللّه" كونهم منفصلين عنه بالمعنى التنظيمي الهيكلي، وفي الوقت عينه، يأتمر بأمر "الحزب"، ويخضع بالكامل لأجنداته وسيطرته. وبمعنى أدق، كانت "سرايا المقاومة" حصان طروادة الذي اخترق به "حزب اللّه" البيئات الأخرى. فكيف تمّ ذلك؟

"طاووس" الحيّ... و "بورتريه" المجندين!

بعد "فلترة" المنضمّين إلى "سرايا المقاومة"، كانوا يخضعون لتدريبات عسكرية، تسمّى دورات "محو أمية عسكرية"، وتجرى في معسكرات لـ "حزب اللّه" بقاعًا، حيث يتدرّب عنصر "سرايا المقاومة" بشكل منفصل عن عناصر "الحزب" على حمل السلاح وتلقيمه واستخدامه، وتتبع تلك الدورات، دورات تأهيلية يوميّة، ثمّ دورة اختصاص لمدة 3 أشهر، كدورة اختصاص المقاتل.

التدريبات، ترافقها دروس دينية، تجعل بعض العناصر يميلون للتشيّع. أما من يتشيّعون فهم يتحوّلون من "سرايا المقاومة" إلى "حزب اللّه"، في ما يسمّى بـ "التعبئة"، بعد خضوعهم لامتحانات تضمن الولاء الكامل لـ "الحزب".

أمّا من يتعاطون المخدّرات، فيمثلون "البورتريه" المثالي لعنصر في "سرايا المقاومة"، بحيث ينصّبون "ديوكًا" على أحيائهم بالبلطجة والسلبطة، كون هذا "البورتريه" المطلوب، لهيمنة رئيس "سرايا المقاومة"، في حيّ ذي غالبية سنية مناهضة لسلاح "حزب اللّه"، يراد لها التطويع بالقوّة.

حاول "حزب اللّه" اختراق كلّ الأحياء الصيداوية. وصلت ذروة السيطرة الحقيقية قبل أحداث عبرا عام 2013 وبقيت فترة بعدها. أمّا الأحياء التي تمّ تطويعها بالفعل، وكانت "السرايا" فاعلة فيها بزخم بالسلاح، فهي: البستان الكبير، حي البراد، حي الزهور، ساحة القدس، الفيلات، التعمير، مشاريع الهبة، الفوار، صيدا القديمة، عبرا وقياعة والشرحبيل، فيما يتراوح عدد عناصر كلّ مجموعة من 20 إلى 30 عنصرًا.

بين 7 أيار وأحداث عبرا

من المحطات المفصلية في تاريخ "سرايا المقاومة" في صيدا، كانت أحداث 7 أيار 2008، لم يحتج "حزب اللّه" لاقتحام صيدا بالسلاح كما فعل في بيروت، فوظف لذلك "سرايا المقاومة"، لتمارس بمظاهر مسلّحة بالعلن، الترهيب وقطع الشوارع. ليخترق "الحزب" البيئة السنية بشباب سنة، ليسوا إلّا أدوات لـ "حزب اللّه" وامتدادًا له ولأجندته.

بعد الانضمام تأتي مرحلة "التجنيد". البورتريه المفضل، هو شبان عاطلون عن العمل، "يحبحبون" وتؤمّن لهم المخدّرات والسلاح والغطاء السياسي. هذا وقد تمّ توظيف أو "تجنيد" مشايخ سنة، لإضفاء غطاء ديني وسياسي لـ "سرايا المقاومة" ضمن البيئة السنية.

بين الأعوام 2012 و 2013، برز دور "سرايا المقاومة" مجدّدًا، حيث تجلّى قبل أحداث عبرا، بإشكالات غالبيّتها مسلّحة، حصلت بين "سرايا المقاومة" وشباب المناطق المناصرين للأسير خصوصًا، والمناهضين لـ "حزب اللّه" عمومًا. واللافت، أن عددًا لا بأس به من الإشكالات، كان صراعًا بين "كارتيل" المولّدات، إذ إن أصحاب مولّدات انضمّوا إلى "السرايا"، بهدف منع مولّدات أخرى من توسيع شبكة مشتركيها في الأحياء بالقوّة.

قبل أحداث عبرا بأسابيع، وفي أوج تحرّكات الأسير ومناصريه دعمًا للثورة السورية وضد سلاح "حزب اللّه"، برز دور "سرايا المقاومة" السياسي، بالاعتداء المسلّح على عشرات المحال في صيدا لمواقف أصحابها العلنية ضد سلاح "حزب اللّه".

الاعتداءات المسلّحة بالجملة على المحال، وترهيب الزبائن، وتكسير المحال، الموثقة بفيديوات، لم تصل الدعاوى فيها أمام القضاء والشكاوى أمام مخفر صيدا للمحاسبة، بسبب الغطاء السياسي الذي وفره "الحزب" لعناصر "السرايا". وسيتجلّى ذلك في توقيف المئات من أنصار الأسير وأبناء صيدا بعد أحداث عبرا مباشرة، مع غطاء سياسي يمنع توقيف أي من عناصر "سرايا المقاومة" قبل الأحداث وبعدها.

ووصلت ذروة الغطاء والضغط السياسي على القضاء والأجهزة الأمنية، في قضية مقتل مناصري الأسير لبنان العزي وعلي سمهون في تظاهرة التعمير التي مهّدت قبل أشهر لأحداث عبرا، حيث لم يتمّ توقيف أحد لا من عناصر "السرايا" ولا "الحزب"، حيث اكتفي بالأحكام الغيابية بحقهم.

هكذا كانت "سرايا المقاومة" في صيدا، "تدجينًا" للمدينة عبر ترهيبها، الذي تعمّقت جذوره مع وفاة الشاب نادر البيومي تحت التعذيب في قضية أحداث عبرا، وشهادات موقوفين آخرين بالتحقيق معهم تحت التعذيب، ومنعهم من التراجع عن تلك الشهادات، التي بنيت عليها أحكام المحكمة العسكرية، وعدم توقيف عناصر "سرايا المقاومة" لا في إشكالات شوارع صيدا ولا في أحداث عبرا، ولا حتى في مقتل لبنان العزي وعلي سمهون، فإن أحد عناصر "حزب اللّه" المشمولين بالحكم، يدير مجموعة من "السرايا" تنشط إلى اليوم في صيدا.

الدور الاستخباراتيّ

بعد أحداث عبرا، تجلى "الدور الإستخباراتي" لـ "السرايا"، عبر التقصّي عن شباب صيدا الموالين للأسير، وتكثيف بؤرة الإشكالات مع شباب الأحياء المؤثرين المناهضين لسلاح "حزب اللّه"، والذين كانوا يتصدّون لهذا التمدّد لـ"السرايا"، ولتشبيحها ولم يكونوا بالضرورة موالين حتى للأسير، فباتوا هدفًا علنيًا لها عبر سياستي الترهيب والترغيب: فإمّا الانضمام إلى "السرايا" مع راتب شهري، لضمان تطويعهم، أو التهديد بـ "تركيب الملفات"، ما جعل عددًا منهم ينتسب بالفعل تحت الترهيب.

المغريات لعناصر "السرايا" في المقابل، كانت على قياس "بورتريه" عناصر "السرايا": فالمتعاطي تؤمّن له المخدّرات، و "الأزعر" يؤمّن له السلاح والنفوذ والغطاء السياسي. أمّا الرواتب وفق أحد المنشقين منذ فترة عن "السرايا"، فكانت لرؤساء "السرايا" في الأحياء، الذين يوزعون المال بدورهم على العناصر، وفق ما يرتؤونه. إلّا أن العنصر الأكثر تثبيتًا وإغراء، فكان الطبابة التي بقيت مؤمّنة بالكامل حتى العام 2017.

هذه العوامل، إضافة إلى التسوية الرئاسية عام 2016، ولغة الحريرية السياسية المنخفضة السقف ضد "حزب اللّه"، أطبقت في صيدا على أي نفس معارض لـ "الحزب"، ليستسلم أهلها على قاعدة أن الدولة وقعت في قبضة "حزب اللّه"، وباتت تعاملهم على أنهم "أبناء جارية" وتعامل "السرايا" و "الحزب" على أنهم "أبناء الست".

انحسار الدور السياسي... والبديل

مع انتفاء المال السياسي، انحسر "دور سرايا" المقاومة السياسي، أمّا الباقون من العناصر، فما زالت مغريات النفوذ والسلاح والتشبيح، تمنعهم من ترك "السرايا" إلى اليوم، فيما لوحظت عودة أحد مؤسّسيها من المشايخ السنة، إلى مهنته القديمة، واختفاؤه عن واجهة النطق باسم "حزب اللّه".

أما المجموعات الناشطة لـ "السرايا" إلى اليوم، فتتواجد في ثلاثة أحياء في صيدا، يقودها: ر. ق، عند محور عبرا، ع. ج مسؤول منطقة الفيلات، وج. ح في دلاعة حي الزهور. إضافة إلى م. د في تعمير عين الحلوة، ومجموعته تتخطى الـ 60 شخصًا.

عاد "حزب اللّه" إلى الواجهة في صيدا اليوم مباشرة عبر عناصره، الذين يقيمون شبكة صداقات مع "رؤوس" الأحياء المؤثرين فيها، ليصبح هؤلاء العناصر الحزبيون "مقبولين" لدى المجتمعات التي يؤثر فيها هؤلاء الشباب الصيداويون بدورهم. ويبقى السؤال: هل يعود لصيدا "نفسها" المعارض، مع الأمل بانحسار الدويلة لصالح الدولة في العهد الجديد؟