سلاح المخيّمات… سقوط آخر الخطوط الحمر

ثلاثة خطوط حمر صلبة غير قابلة للمحو طوال عقود ما بعد اتّفاق الطائف. بين ليلة وضحاها مُحيت تماماً أو أوشكت: وجود الجيش السوري في لبنان، سلاح “الحزب”، سلاح المخيّمات الفلسطينية. ثلاثيّة كان يتعذّر فصل أحد أضلعها عن الآخر نظراً إلى التصاقها بعضها ببعض، وكلٌّ منها ضَمِنَ بقاؤه استمرار الآخر. مثّلت تلك في نهاية المطاف الحواجز الحقيقية، تحت وطأة تداعياتها وفرض ربطها باستحقاقات إقليمية، العائق الفعليّ دون إعادة بناء الدولة اللبنانية بحجج جانب منها واقعي، والآخر وهمي، هو أنّها استمرّت بقوّة الخارج ولا يمكن إسقاطها إلّا بالقوّة نفسها. ما حصل أنّ محْوها تباعاً كان كذلك.

المفترض بما انتهى إليه البيان الرسمي للرئيسين جوزف عون ومحمود عبّاس يوم الأربعاء (21 أيّار)، إسقاط آخر الخطوط الحمر الإقليمية المرسومة من حول لبنان ودولته واستقراره. لم يتبنَّ البيان توصية المجلس الأعلى للدفاع المتّخذة في 2 أيّار بتحذير “حماس” من توريط لبنان في حرب مع إسرائيل واستخدام الأراضي اللبنانية وتعريض السياسة الخارجية للبنان للخطر فحسب، بل وتأكيد حصريّة السلاح في يد الدولة اللبنانية وإنهاء كلّ سلاح غير شرعي خارجها.

إلى أن توضع الآليّة الإجرائية لقرار الرئيسين، بات في حكم الساقط أخيراً المحظور الشائع، وهو ربط سلاح المخيّمات بالحلّ النهائي للقضيّة الفلسطينية، وتبريره بأنّه المانع الرئيسي للتوطين في لبنان ما دام التمسّك به يعني استمرار الكفاح المسلّح. تهاوت الذرائع هذه بعدما استحال في العهود الرئاسية المتعاقبة بعد اتّفاق الطائف الاقتراب من هذا الملفّ، أو التعرّض له، واعتباره أمراً واقعاً غير محكوم بالزمن ويستعصي إيجاد حلّ له من الداخل اللبناني، على نحو مطابق لما كان يقال عن الوجوديْن العسكري والأمنيّ السوريَّين في لبنان، وعن سلاح “الحزب”. هي الخطوط الحمر فوق الدولة اللبنانية.

الحذر واجب

ليست مفارقة أن يقول الأمين العامّ الراحل لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله إنّ مخيّم نهر البارد بعد اعتدائه على الجيش في حزيران 2007 “خطّ أحمر”، قبل أن يثبت في الأشهر الثلاثة التالية وصولاً إلى أيلول وتصفية التنظيم الإرهابي “فتح الإسلام”، أنّه خطّ قابل للمحو، وقد محاه الجيش اللبناني.

بقوّة سوريا و”الحزب” استمرّ سلاح المخيّمات. وبقوّة سوريا ثمّ إيران استمرّ سلاح “الحزب”. وبقوّة التخويف من السلاح الفلسطيني مع ياسر عرفات وبعده “الحزب” استمرّ وجود سوريا في لبنان.

على أهميّة البيان الرسمي اللبناني ـ الفلسطيني الأربعاء، ثمّة معطيات تتلازم معه توجب الحذر مقدار ما يمكن أن تبعث على التفاؤل، في الظاهر على الأقلّ، حيال المرحلة المقبلة. أبرزها اثنان:

  • أوّلهما، تزامن الخوض في نزع سلاح المخيّمات الفلسطينية مع حوار كان بدأ قبل شهر بين ممثّلَيْن اثنيْن لرئيس الجمهورية و”الحزب” هما محمد عبيد ورئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، يشارك فيه العميد المتقاعد أندره رحّال، ويرمي إلى وضع خطّة متدرّجة تقضي بحصر السلاح في يد الدولة اللبنانية شمال نهر الليطاني بعد “تنظيف” جنوبه من السلاح غير الشرعي. كلا طرفَيْ الحوار، الرئيس و”الحزب”، مطمئنّ إلى نيّات الآخر حياله أوّلاً، وإلى التوصّل إلى حلول ترضي كليهما: فإزاء تجاوبه بلا تردّد مع الإجراءات التي يقوم بها الجيش لوضع اليد على المواقع ومستودعات الأسلحة، يعبّر “الحزب” عن ارتياحه إلى المفردات غير المستفزّة التي يدلي بها عون عن الهدف المتوخّى، وهو “حصر السلاح في يد الدولة”، لا “نزع” ولا “تجريد”.

ضاعف في الارتياح كلام الرئيس عن مرحلة أساسية أولى في خطّته هي السلاح الثقيل، الأكثر إقلاقاً لإسرائيل والغرب، والمقصود به ترسانة الصواريخ والمسيّرات، على الرغم من معرفته تماماً بما يطالب به الأميركيون والإسرائيليون، وهو جمع كلّ سلاح متاح عند “الحزب” وليس تجزئته أو مفاضلة الخطير فيه على الأقلّ خطراً. مع ذلك، يُعوّل عون و”الحزب”، لاستعجال الخطى وتفادي إبطائها، على نتائج المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية وبلوغها اتّفاق البلدين على نزع فتيل التوتّر والوصول إلى حافة الانفجار في المنطقة، ومن بينها لبنان.

ضربة قاصمة

  • ثانيهما، من المعلوم أنّ تجريد المخيّمات الفلسطينية من السلاح أكثر تعقيداً من معضلته مع “الحزب”، خصوصاً في مخيّم عين الحلوة المسمّى “عاصمة الشتات” الفلسطيني في لبنان، كما لو أنّه يرمز، بما هو عليه من انغلاق وتحوّله قلعة مسلّحة، إلى حقّ العودة والدولة الفلسطينية. في واقع حاله، علاوة على البؤس الذي فيه والفقر ونقص الخدمات والاكتظاظ، لا يعدو في نظر الدولة اللبنانية، اليوم كما من قبل، كونه بؤرة إرهاب يلوذ بها الفارّون والمطلوبون والقتلة، وتضمّ خليطاً عجيباً من عشرات الشراذم والتنظيمات المسلّحة الأصولية التي فرّخت داخله، فلسطينية وغير فلسطينية، وتتناحر وتتقاتل فيه بسلاح فلسطيني. أضف توزّع الولاءات على نحو أضحت فيه حركتا “فتح” و”حماس”، المتنافستان في الأصل والمتعاديتان، من قوى المخيّم المتصارعة على مرجعيّته، وهو ما لا ينطبق على المخيّمات الفلسطينية الأخرى في الجنوب أو بيروت، غير المقفلة على جوارها.

من شأن هذا الواقع جعل مهمّة تجريد المخيّم الكبير والرئيسي غاية في الصعوبة. إقرار الرئيس عباس بحقّ الدولة اللبنانية في فرض سيادتها على أراضيها بما فيها المخيّمات، وإقرار الرئيس عون بأنّ لبنان لا يعترف إلّا بشرعيّة منظّمة التحرير الفلسطينية، ليسا كافيَين لتمكين السلطات اللبنانية من دخوله في ظلّ قوى أخرى ما إن يدخل الجيش أرض المخيّم حتّى يقتادها إلى وراء القبضان لأنّها مطلوبة من القضاء. مع ذلك، تصدر أصوات فلسطينية من داخل عين الحلوة ترفض قرار السلطات اللبنانية والبيان الرسمي.

ربّما يصبح من المفيد التذكير هنا بأنّ الليونة التي بات يبديها “الحزب” في قبول التخلّي عن سلاحه وعن المواقع ما إن أخلى الجنوب نهائيّاً وسلّمه إلى الجيش، لم تكن لتتأتّى لو لم يتلقَّ ضربة قاصمة قادته إلى هزيمة خياراته وآلته العسكرية. أخيراً قال رئيس الجمهورية إنّ “الحزب” بات أقرب إلى الاقتناع بتداعيات المرحلة الجديدة والتأكّد من أنّ الذراع الحديدية لُويت.