المصدر: المدن
الكاتب: فرح منصور
الثلاثاء 29 آب 2023 17:17:56
المشهد الذي سيطر اليوم داخل أروقة قصر عدل بيروت، كان كفيلًا بتجسيد واقع القضاء اللبناني. فلا نبالغ بالقول إن ملف حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، القضائي، صار مرهقًا لمجموعة من القضاة، وبات مستبعدًا في الوقت الراهن إصدار مذكرة توقيف بحقه، خصوصًا بعدما رفع القاضي ماهر شعيتو يده عن الملف بشكل نهائي لأسباب قانونيّة.
صباح اليوم الثلاثاء، 29 آب، عاش بعض القضاة حالة من التخبط والتضارب في الآراء والمواقف. ملف سلامة صار ثقيلًا على بعضهم ويريدون ترك المعركة القضائية لأصحابها.
بناءً على المعطيات التي أعلنت عنها مجموعة اسماء بارزة من القضاة لـ"المدن" في تقارير سابقة، كان من المفترض اليوم أن تصدر مذكرة توقيف غيابية بحق رياض سلامة، بعدما تعذر على الأجهزة الأمنية إيجاده، فأبلغ لصقًا منذ عدة أيام.
تعذر التبليغ
المصادر القضائية البارزة سبق وأكدت لـ"المدن" أن سلامة اختفى، ويتعذر تبليغه لهذا السبب. فلا معلومات واضحة حول مكان وجوده. فيما كانت لافتة الألاعيب القانونية التي اعتمدها سلامة هذه المرة، فقد تخلى عن الأعذار الطبية ولجأ لحيلة جديدة. حيث علمت "المدن" أن سلامة أكد لإحدى وسائل الإعلام بأنه سيحضر إلى قصر عدل بيروت وسيمثل أمام الهيئة الاتهامية، وهو في صدد تحضير مفاجأة قضائية سيعلن عنها فور وصوله إلى قصر عدل بيروت.
حيلة سلامة نجحت، وخلال ساعات قليلة انتشرت هذه الشائعة، ووصلت للقضاة. وعلمت "المدن" أن بعض الأجهزة الأمنية أبلغت مساء أمس بأن سلامة سيحضر إلى قصر عدل بيروت، وستؤمن الحماية اللازمة له داخل قصر عدل بيروت.
في الداخل، أكد بعض القضاة بثقة تامة بأن سلامة سيصل عند الحادية عشر صباحًا، سيما أن الأسئلة التي هُمست في طوابق قصر عدل بيروت تعلقت بمصير سلامة. هل سيحضر سلامة؟ هل ستصدر مذكرة توقيف وجاهية بحقه؟ هل سيقاد إلى النظارة مخفور اليدين؟ هذه الأسئلة طُرحت من بعض المواطنين الذين تواجدوا داخل قصر العدل.
دعاوى جديدة
ما هي إلا دقائق، حتى حضر وكيل سلامة القانوني، حاملًا مجموعة من الدعاوى والشكاوى، وبابتسامة صفراء صرّح بأن "سلامة بخير، ولكنه لا يعرف أي معلومات عن مكان إقامته، وقد حضر لإبلاغ القاضي ماهر شعيتو بدعوى مخاصمة الهيئة الاتهامية التي تقدم بها أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز"، المتوقفة عن النظر في الدعاوى منذ أكثر من عام ونصف.
بهذه الخطوة، سلامة تقصّد تقليد ما قامت به رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل، القاضية هيلانة اسكندر حين تقدمت بدعوى مماثلة منذ أسابيع، وخاصمت قاضي التحقيق الأول، شربل أبو سمرا، فرفعت يده نهائيًا عن الملف.
في الواقع، مضمون الدعوى كان مفاجئًا لجميع القضاة، ولم يكن متوقعًا أن يتجه سلامة إلى هذه الحيلة القانونية، في حين لم تُخف مصادر قضائية بارزة توجسها من المرحلة الحساسة التي وصل إليها الملف، واعتبرت أن الملف دخل في النفق المُظلم ولن يخرج منه أبدًا. وقال قضاة بشكل علني بأن الملف صار مماثلًا لملف المرفأ المجمد منذ 2021 بسبب هكذا دعاوى مشابهة.
وأمام هذه المعطيات، طُرح سؤال أساسي، لم لجأ سلامة لهذه الحيلة اليوم تحديدًا؟ لماذا لم يتقدم بها سابقًا؟ ولماذا أوهم القضاء اللبناني أنه سيمثل أمام الهيئة الاتهامية؟ وأتى الجواب سريعًا، أن ما حصل يوم أمس مع القاضية هيلانا اسكندر ساهم في تعقيد الملف أكثر فأكثر.
في الحقيقة، ما صرحت به اسكندر مساء أمس انعكس تمامًا، حيث انقلب بعض القضاة عليها بعدما نُسب إليها تصريح في إحدى وسائل الإعلام ومضمونه بأن مذكرة التوقيف ستصدر اليوم بحق سلامة وجاهيًا أو غيابيًا.."، وما هي إلا ساعات قليلة، حتى خرجت اسكندر ببيان خجول نفت فيه ما نُسب إليها، مؤكدةً بأن الهيئة الاتهامية هي المخولة بإصدار مذكرات التوقيف ولا علم لها بالقرار الذي سيتخذه القاضي ماهر شعيتو.
صراع قضائي
هذا وقد علمت "المدن" بأن الصراع القضائي اقتحم وزارة العدل في الفترة الأخيرة، وذلك نتيجة الإجراءات القضائية الأخيرة التي اتخذتها القاضية اسكندر. ولم يكن وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال، القاضي هنري الخوري على علم بكل هذه التحركات.
في المقابل، رأى وزير العدل، القاضي هنري الخوري في حديث خاص لـ"المدن" أن ملف سلامة صار مجمدًا، ومن المؤسف استعمال الأساليب القانونية الملتوية بهذا الشكل لمنع القضاء اللبناني من القيام بدوره في ملف سلامة. واعتبر الخوري أن الأمور وصلت إلى حد الإساءة للملفات القضائية لمنع القضاء من متابعتها، والحل الوحيد اليوم بتعيين هيئة بديلة للهيئة الاتهامية".
مخاصمة القضاة
بالعودة إلى ألاعيب سلامة، ادعى سلامة على الدولة اللبنانية، وعرض في مضمون الدعوى، أسباب اعتراضه على عمل القضاة، فخاصمهم، معتبرًا "أن الهيئة الاتهامية ارتكبت أخطاءً جسيمة، وهذه الأخطاء لا تصدر من قضاة يتحلون بالعلم والمعرفة، فلا يمكن لهيئة القضايا في وزارة العدل أن تستأنف قرار أبو سمرا بترك سلامة رهن التحقيق"...
في مشهد سُريالي، وبعد إبراز الدعاوى أمام القاضي شعيتو تبيّن بأن إحدى الدعاوى لم تُسجل بطريقة قانونية صحيحة، بسبب بعض الأخطاء التي حصلت خلال تدوين وتسجيل الدعاوى في قيود محكمة التمييز.
اللافت، أن الحاكم السابق لم يخاصم هيئة اتهامية واحدة، بل خاصم جميع القضاة الموجودين في الهيئة الاتهامية، فتقدم بـ3 دعاوى منفصلة، واحدة لمخاصمة الهيئة الاتهامية التي وافقت على استئناف اسكندر، وفي الثانية خاصم الهيئة الاتهامية التي حددت له جلسة استجواب في الأسابيع الماضية ولم يحضرها، وفي الأخيرة خاصم القاضي ماهر شعيتو.
وأخطر ما في هذه الدعوى، أن مضمونها كان شبيهًا بتهديد مبطن للمسار المقبل، حيث ذكر في عرض الشكوى بأن سلامة سيتقدم بدعوى مخاصمة أي هيئة اتهامية ستضع يدها على ملفه القضائي، وهو بذلك تمكن من رفع يد جميع القضاة الموجودين في الهيئة الاتهامية بشكل نهائي عن قضيته.
في السياق نفسه، الخطأ الذي حصل في تقديم الدعاوى، حيث أن بعضها لم يسجل بطريقة قانونية، اعتبره بعض القضاة "الفرصة" الوحيدة للهيئة الاتهامية لاستغلال هذا الظرف وإصدار مذكرة توقيف غيابية بحق سلامة، وهو الأمر الذي سعت إليه اسكندر ولكنه لم يحصل.
إذ كان من المفترض أن تنتهي الجلسة خلال ساعة واحدة، إلا أنها امتدت لحوالى 4 ساعات متواصلة، بعدما حاولت محامية الدولة اللبنانية إيجاد أي حلول سريعة لهذا الأمر. سيما أن القاضي ماهر شعيتو، وكما توقعنا سابقًا، لم يصدر أي مذكرة توقيف بحق سلامة، بل رفع يد الهيئة الاتهامية عن ملف سلامة بشكل نهائي. هذا وقد برّر أحد المصادر القضائية البارزة خطوة شعيتو قائلًا بأن فرصة إصدار مذكرة توقيف بحق سلامة لم تكن مُتاحة أمامه، إذ أن القاضي شعيتو أبلغ بمخاصمته وبالتالي ترفع يده مباشرةً عن الملف.
نتيجة ذلك، اشتد الصراع داخل غرفة القاضي ماهر شعيتو، فسُمع صراخ اسكندر داخل القاعة معترضةً على ما حصل، لتخرج بعدها غاضبة، واكتفت بعبارة واحدة "انتهى الكلام..".
ما حصل اليوم، أكد بأن سلامة تمكن من منع القضاء اللبناني من إصدار مذكرة توقيف غيابية بحقه، مستعينًا بالألاعيب القانونية، وكل الخوف من أن يتجمد هذا الملف بشكل نهائي.