سيادة تُمارَس… لا تُستعرَض

في مناسبة اعتاد فيها اللبنانيون أن يَروا جيشهم يستعرض قوّته في ساحة الشهداء، جاء قرار إلغاء العرض العسكري هذا العام ليقول الكثير… وربّما أكثر من العرض نفسه. فلبنان يقف اليوم عند أخطر مفترق منذ سنوات، وسط تصعيدٍ إسرائيلي متواصل، آلاف الخروقات الموثقة في الجنوب، واحتلال مستمرّ لخمس نقاط داخل الأراضي اللبنانية، ما يجعل الاستعراض العسكري خيارًا غير واقعي في ظرف تتقدّم فيه المسؤولية على المشهدية، والأمن على البروتوكول.

على الحدود الجنوبية، يتواصل الضغط الإسرائيليّ بوتيرة تصاعدية. تقارير دولية ومحلّية، بينها تقارير صادرة عن جهات رقابية مستقلة وإشراف الأمم المتحدة، تشير إلى آلاف الخروقات الجوّية على مدى الأعوام الأخيرة، إضافة إلى تحرّكات عسكرية تكاد تكون يوميّة. طائرات تجسّس تحلّق فوق المدن، قصف موضعيّ قرب القرى الحدودية، محاولات فرض وقائع جديدة على الأرض… كلّها دلائل على أن التهديد لم يعد احتمالًا، بل واقعًا دائمًا تراقبه قيادة الجيش دقيقةً بدقيقة.

وليس التهديد الجوّي وحده ما يُثقل المشهد. فاحتلال خمس نقاط استراتيجية داخل الأراضي اللبنانية — كما تؤكد مصادر صحافية دولية — يعكس استمرار إسرائيل في خرق القرارات الدولية وعلى رأسها القرار 1701، ويُبقي الحدود في حالة توتر بنيويّ يجعل أيّ انسحاب لوحدات الجيش من مواقعها الأمامية خطوة محفوفة بالمخاطر. فالعرض العسكري، بكلّ ما يتطلّبه من نقل وحدات وإجراءات لوجستية وتغطية أمنية، يُعدّ في الظروف الحالية مغامرة قد تُضعف الجبهة الجنوبية في لحظة يُختبَر فيها صمود لبنان بشكل يوميّ.

من هنا كان القرار. قيادة الجيش أوضحت في رسائل داخلية أن "الظروف الاستثنائية تتطلّب أقصى درجات الحذر والجهوزية"، فيما جاءت مقاربة الرئيس جوزاف عون لتضع النقاط على الحروف: حماية الاستقرار الوطني مقدّمة على أيّ استعراض، والاستقلال لا يُقاس بمرور الآليات بل بقدرة الدولة على حماية حدودها ومؤسساتها.

الرئيس، الذي تعامل مع الملف ببرودة أعصاب وعمق استراتيجي، أعاد تكريس المبدأ الذي أطلقه خلال لقائه نقابة المحرِّرين حين قال: "قوّة المنطق على منطق القوّة"، وهي عبارة تحوّلت إلى قاعدة حكم تُعبّر عن فلسفته في إدارة المرحلة؛ فلسفة تقوم على مواجهة التهديد بحكمة، وعلى اعتماد القرار الواعي بدل الاندفاع، وعلى تقديم مصلحة الوطن فوق أي بروتوكول أو استعراض.

 

وهذه المقاربة ليست فقط موقفًا سياسيًا، بل ترسيخًا لمفهوم السيادة الفعلية. فالسيادة تُمارَس عندما تتخذ الدولة القرار الأصعب في اللحظة الأصعب، وعندما تمنع العدو من استغلال أي ثغرة أو قراءة أي إشارة خاطئة. إلغاء العرض — بهذا المعنى — ليس تراجعًا عن رمز وطني، بل هو تأكيد أن السيادة ليست منصة ولا موكبًا، بل قرارًا واعيًا يضع مصلحة اللبنانيين فوق أي اعتبارات شكلية.

 

كما حمل القرار رسالة واضحة إلى الداخل والخارج معًا: لبنان ليس دولة بلا قرار، بل دولة تُحسن قراءة اللحظة الإقليمية وتتعامل معها من موقع قوّة العقل لا استعراض القوّة. فالإلغاء لا ينتقص من رمزية الاستقلال، بل يعيد تأكيد أن الاستقلال الحقيقي يُصان بالجهوزية على الحدود، وبالدبلوماسية في الخارج، وبقيادة تتبنى منطق الدولة لا منطق الانفعال.

وفي المحصّلة، تحوّل غياب العرض العسكري من نقص بروتوكولي إلى فائض مسؤولية: دولة تضع أمن شعبها فوق المظاهر، وجيش يختار الجبهة على المنصّات، ورئيس يثبّت أن قوّة المنطق أقوى من منطق القوّة، وأن السيادة تُمارس… لا تُستعرَض.

فلبنان، الذي يواجه احتلالًا واعتداءات وانتهاكات مستمرّة، لا يحتاج إلى عرض ليقول إنه مستقلّ… بل إلى قرار سياديّ شجاع يحمي هذا الاستقلال. وهذا تمامًا ما فعله هذا العام.