المصدر: المدن
السبت 8 أيار 2021 15:20:28
يوم حصل الانهيار المصرفي الكبير في أواخر العام 2019، واكتشف أصحاب الودائع عمق الأزمة التي وقعوا فيها، مثلت تلك الأحداث بداية شهر عسل طويل للعاملين في القطاع العقاري، من شركات وتجار بناء. قبل تلك المرحلة، كان عدد كبير من هؤلاء يقعون تحت ديون مصرفيّة ضخمة. لا بل كانت نسبة مرتفعة منهم واقعة تحت وطأة ديون مصرفيّة تُعاد جدولتها باستمرار، لعجزهم عن سدادهم. وما أن وقع الانهيار المصرفي، حتّى وجد هؤلاء في تلك الأحداث فرصة لا تعوّض، بعد أن اندفع أصحاب الودائع لاستعمال سيولتهم العالقة في النظام المصرفي في شراء العقارات والشقق، وصار بإمكان الشركات العقاريّة وتجار البناء قبول الشيكات المصرفية لبيع هذه العقارات والشقق وسداد الالتزمات في المصارف عبر هذه الشيكات. وفي الوقت نفسه، حرص بعض المستفيدين من القروض السكنيّة بالدولار على بيع شققهم بالشيكات المصرفيّة لأصحاب الودائع العالقة، لتفادي مخاطر الدين بالعملة الصعبة، في ظل انهيار سعر الصرف. كل هذه التطورات أدت إلى حركة عقاريّة غير مسبوقة منذ سنوات، وإلى انتعاش مبيعات القطاع العقاري بعكس جميع مؤشرات القطاعات الأخرى.
نهاية طفرة المبيعات
اليوم، وبعد سنة ونصف من بدء هذه التطورات، يبدو أن شهر العسل العقاري هذا قد انتهى، ليعود القطاع إلى حالته السابقة. وخصوصاً بعد سداد الغالبية الساحقة من القروض العقاريّة التي فتحت الباب أمام بيع العقارات مقابل شيكات مصرفيّة. فمع سداد هذه القروض، لم يعد لدى أصحاب العقارات أي مصلحة في قبول الشيكات المصرفيّة مقابل بيع عقاراتهم. وهو ما أدى إلى انحسار موجة المبيعات العقاريّة بشكل تدريجي منذ مطلع هذه السنة. ومع اشتراط معظم بائعي العقارات الدولار النقدي كطريقة للسداد، عادت المبيعات العقاريّة للضمور تدريجيّاً منذ بداية السنة، لينخفض النشاط العقاري ويتوازى مع الركود الاقتصادي الذي تشهده جميع القطاعات الأخرى.
أرقام المصارف تظهر أن القروض المصرفيّة الممنوحة للقطاع الخاص لم تنخفض في أوّل شهرين من هذا العام إلا بنحو 677 مليون دولار، مقارنة بانخفاض قدره 3.69 مليار دولار في الفترة المماثلة من العام الماضي، حين كانت حركة بيع العقارات مقابل الشيكات المصرفيّة في أوجّها بعد اندلاع أزمة المصارف وهرع المودعين للتخلص من ودائعهم عبر شراء العقارات من المقترضين. ومن ناحية الودائع، لم تنخفض قيمة الودائع في أول شهرين من هذه السنة إلا بما يقارب 288 مليون دولار، في مقابل انخفاض قدره 7.15 مليار دولار في أول شهرين من العام الماضي. باختصار، ركدت حركة سداد القروض بالسيولة المصرفيّة في مطلع هذا العام، وتم إقفال أهم مصادر انتعاش الحركة العقاريّة العام الماضي.
عمليّاً، تشير أرقام الميزانيات المصرفيّة إلى أن ما يقارب 15 مليار دولار من الديون المصرفيّة جرى سدادها خلال فترة سنة وشهرين، بين نهاية 2019 وشهر شباط من هذا العام. وهذه القيمة الضخمة من الديون التي تم تسديدها، هي تحديداً قيمة الديون العقاريّة التي تم إطفاؤها بشيكات مصرفيّة من أموال المودعين خلال هذه الفترة. أما القيمة المتبقية من الديون، والتي تبلغ نحو 35 مليار دولار، فيتوزّع معظمها ما بين قروض تجزئة يتم سدادها بالليرة اللبنانيّة وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم، أو قروض سكنيّة ممنوحة بالليرة اللبنانيّة ولا يرغب أصحابها بسدادها الفوري في الظل التدهور المستمر في سعر الصرف، كما يرتبط الكثير من هذه القروض بالتزامات متعثرة لا يتم سدادها. ولهذا السبب، انحسرت دائرة القروض العقاريّة بالدولار، والتي يستهدف أصحابها سدادها عبر بيع العقارات، إلى حد بعيد.
أزمة الدولار تضرب المبيعات
أرقام القطاع المصرفي، وتراجع حركة سداد القروض بالشيكات، سرعان ما انعكست على مبيعات القطاع العقاري هذا العام. ففي أول شهرين من هذا العام، انخفض عدد عمليات البيع العقاريّة التي جرى تسجيلها في السجل العقاري بنحو 16%، بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. علماً أن الخبراء يشيرون إلى أن هذا الانخفاض لا يعكس كامل الانحسار الفعلي في عمليات البيع خلال هذه السنة. إذ أن جزءاً كبيراً من عمليات البيع التي جرت خلال العام الماضي بموجب عقود بيع ممسوحة، كان يتم تسجيلها في بداية هذا العام في السجل العقاري. وهو ما أدى إلى تسجيل معدل انخفاض معتدل في عدد عمليات البيع في السجل العقاري في مطلع العام الحالي. مع الإشارة إلى أن منطقتي المتن وبيروت بالتحديد، سجلتا أعلى نسب انخفاض في قيمة عمليات البيع العقاري، بعدما انخفضت قيمة عمليات البيع بنسبة 22.7% في منطقة المتن و18.5% في بيروت في أول شهرين من السنة الحاليّة، مقارنة بأول شهرين من السنة الماضية.
السبب ببساطة، وفقاً للمتابعين، هو انتقال البائعين إلى طلب الدولار النقدي مقابل بيع العقارات. وهو ما أدى إلى تراجع الطلب على العقارات إلى حد بعيد، مع عدم توفّر السيولة المطلوبة في السوق، ومع إحجام المصارف عن منح أي شكل من أشكال القروض. وهنا يشير عدد كبير من تجار البناء إلى أن طلب الدولار النقدي ينبع أيضاً من حاجتهم لهذه السيولة لاستكمال مشاريعهم، بعد أن باتت الغالبية الساحقة من الموردين ترفض قبول الشيكات المصرفيّة لسداد ثمن مواد البناء. وهو ما يعني أن تلقي الشيكات المصرفيّة مقابل بيع الشقق سيعني توقف عجلة البناء لديهم. ولذلك، باتت الفئة المستهدفة بالنسبة لتجار البناء هي المغتربين الباحثين عن فرص عقاريّة مغرية في ظل الأزمة، خصوصاً أن هذه الفئة هي وحدها القادرة على تأمين الدولار النقدي مقابل شراء العقارات في ظل هذه الظروف.
المصارف تدخل كمضارب
يشير العديد من المتابعين لشؤون القطاع العقاري إلى أن دخول المصارف كمضارب على سوق الدولار فاقم الوضع بالنسبة للمودعين، الذي يبحثون عن فرصة تحويل ودائعهم لموجودات عقاريّة. ففي السابق، عمد أصحاب القروض المصرفيّة لقبول الشيكات المصرفية من المودعين، كوسيلة للدفع عند بيع عقاراتهم لسداد القروض. أما اليوم، فدخلت المصارف على الخط لتعرض حسومات كبيرة على القروض المصرفيّة، مقابل سدادها بالدولار الطازج، فيما وصلت نسبة الحسم من هذه القروض في حال تم سدادها بالدولار النقدي إلى 75%. وهكذا، بات حتّى من تبقى من مقترضين بالدولار يرفضون تلقي الشيكات المصرفيّة مقابل بيع عقارتهم، لرغبتهم بتلقي الدولارات النقديّة والاستفادة من الحسومات المرتفعة، خصوصاً أن البيع مقابل الدولار الطازج للمغتربين قد يسمح للمقترض بالاحتفاظ ببعض السيولة النقديّة بعد سداد قيمة القرض وفقاً لهذه الحسومات.
باختصار، وبعد تحمّل المودع انخفاض قيمة الدولار المصرفي (أو اللولار) قياساً بالدولار النقدي عند شراء العقار، بات عليه أن يتحمّل أيضاً دخول المصارف كمضارب في سوق الدولار، لتحرمه حتى فرصة تحويل وديعته إلى موجودات عقاريّة، وهو ما سد بالنسبة للمودعين آخر المنافذ المتاحة بالنسبة إليهم.
لكل هذه الأسباب، لم يعد القطاع العقاري قادراً على الاستفادة من الأزمة المصرفيّة على النحو الذي جرى طوال العام الماضي، حين تحولت أزمة المصارف إلى فرصة لهذا القطاع. لكنّ المشكلة الأهم خلال المرحلة المقبلة، ستتعلّق بالأزمة الإسكانيّة التي سيواجهها الشباب اللبناني، خصوصاً أن ركود القطاع سيتصل أيضاً بانعدام فرص الحصول على قروض سكنيّة تمكن الشباب من شراء المسكن، في حين عرض الشقق السكنيّة للبيع مقابل الدولار النقدي لا يسمح بتأمين ثمن هذه الشقق في ظل الظروف الحاليّة. وهكذا، سيظل القطاع العقاري خلال المرحلة المقبلة حكراً على الدفقات الماليّة الواردة من الخارج، من قبل الراغبين بالاستفادة من انخفاض الأسعار في ظل الأزمة.
علي نور