شيعة شيعة شيعة

بدا الشعار غريبًا. بدأت الظاهرة إبّان "ثورة 17 تشرين". مجموعة من الشبان اليافعين تقتحم مظاهرة ذات طابع مدنيّ، وتهتف باتّجاهها بأعلى صوت وبقبضات مرفوعة (كما أوصاهم الأمين العام): شيعة شيعة شيعة. المصيبة لم تكن فقط في البعد الطائفيّ للشعار، بل في بلادته. ليس تعبيرًا عن مطلب (سيادة حرية إلخ)، ولا عن رفض لمطلب. ليس فيه "لمعة"، ولا لعب على الكلام، ولا حتى كلمات مختلفة على "القافية". هي ببساطة السياسة الهوياتية في أتفه تجلّياتها.

تصرّف الجميع على أنّ الشبان "عناصر غير منضبطة"، أي أنهم لا يمكنهم أن يكونوا تعبيرًا جديًّا عن توجّهات حزب ذي أبعاد إقليمية، ورؤية كونية ("هزمنا في لبنان ولكننا ربحنا في كولومبيا")، وقيادة تاريخيّة. مرّت بضع سنوات، ووقعت النكبة، فانكشف المستور. بات شعار "شيعة شيعة شيعة" العنوان الرسميّ للمعركة لدى المنظومة السياسية المتكاملة لـ "حزب اللّه". من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى (يريدون "إعدام الطائفة الشيعية")، إلى الأمين العام لـ "حزب اللّه" ("سنخوض معركة كربلائيّة")، إلى طفرة المعلّقين و "المحلّلين" و "الناشطين". مع سقوط وهم مواجهة إسرائيل، واضمحلال حجّة مواجهة "التكفيريين في سوريا"، لم يبق عنوان للمعركة سوى "شيعة شيعة شيعة". وهذا تطوّر إيجابيّ، بحيث لا نتناقش بعد اليوم في جنس الملائكة، ولا في سياسة الدول الإمبريالية، ولا في "الخطر الإسرائيلي"، بل في أساس الموضوع وجوهره: شيعة شيعة شيعة.

سلاح "حزب اللّه" ومشروعه أساسهما وجوهرهما تفوّق مذهبي، أمّا بقيّة العناوين (إمبريالية إسرائيل إلخ) فجزء من "عدّة النصب". ومن هنا، يبدأ نقاش جديّ مع منطق "الحزب"، بعيدًا من الأدبيّات البالية التي استطاع بحرفية عالية جرّنا إليها مدّة ثلاثة عقود. بحيث استطاع أن يجبر حتى خصوم "الحزب" على مناداته بـ "المقاومة" (مع ال التعريف) ومن ثمّ الشروع في جدلية حول كيفية وتوقيت وأساليب استعمال السلاح (أسخف هذه الطروحات كان رفض استعمال السلاح في الداخل ولكن مباركة استعماله بوجه "العدوّ الإسرائيلي").

سقطت كلّ أوراق التين. لم يعد لـ "الحزب" أيّ حليف جدّي خارج طائفته. كلّ استطلاعات الرأي الجديّة (وليس المتخيّلة في الصحيفة الصفراء) تظهر أنّ التأييد للسلاح ليس له أي أثر يذكر خارج الطائفة الشيعية (لا يتعدّى العشرة بالمئة). لم يعد هناك من اتّفاق مار مخايل المشؤوم، ولا قادة لـ "سرايا المقاومة" داخل الطائفة السنية. لم تعد المطالبة بـ "ثلث معطّل" لما كان يسمّى المعارضة، بل أصبح "اللعب على المكشوف"، وعنوانه المزيّف "الميثاقية"، وهي الكلمة التي تستعمل بدل التعبير الأصحّ وهو "حقّ الفيتو" للطائفة الشيعية بالسلطتين التشريعية والتنفيذية.

لم يعد لدى "حزب اللّه" "سلاح" إلّا عنوان الطائفة. وهذا ليس عيبًا بحدّ ذاته، إذ إنّ الكثير من الحركات الإثنية حول العالم حملت عنوانًا طائفيًا بامتياز وناضلت من أجله. الأكراد مثلًا، لم يدّعوا أنهم يحملون سلاحًا لتغيير وجه الشرق الأوسط، أو نصرة المستضعفين في العالم. حملوا سلاحًا دفاعًا عمّا اعتبروه حقّ تقرير المصير وبناء دولة خاصة بهم. كذلك فعل صرب البوسنة، بغضّ النظر عن طبيعة الأساليب الشنيعة التي استعملوها في كفاحهم هذا. إلّا أنهم كانوا علنًا يطمحون للانفصال عن دولتهم والانضمام إلى دولة جارة، أي جمهوريّة يوغوسلافيا (المصغّرة). وعندما لم تستطع المجموعتان تحقيق هدفهما المنشود والمعلن، رضختا لتسوية الفدرالية الإثنية (أقلّه في البوسنة) وحقّ الفيتو على القضايا الكبرى في الدولة المركزيّة (ليس على بقاء السلاح كما يتخيّل البعض هنا).

"حزب اللّه" لا يريد الفدرالية (لا له ولا لغيره). ولا الانفصال. ولا مزيد من "الحقوق" ذات الطابع الطائفي في النظام. لذا هو – بالمعنى المقارناتي للصراعات الإثنية – حالة شاذّة لا يمكن التعامل معها وفق القواعد المعترف بها تاريخيًا. يريد حاله أشبه بأبرتايد طائفي، بحيث يحق له ما لا يحقّ لغيره، مع أنّ تداعيات ما يفترض أنه حقّ له تُصيبه كما تصيب غيره. وهذا مردّه إلى معطيين: الطبيعة الجغرافية (لا حدود مع إيران أو العراق)، والطبيعة العقائدية، أي كونه عمليًا جزءًا لا يتجزّأ من الحرس الثوري الإيراني ومشروع ولاية الفقيه في المنطقة. إذًا العودة إلى المكان الطبيعي فيها تسهيل للنقاش، ولكنه لا يسهّل الحلّ، إذ إنّ مطالبه الطائفية عابرة للحدود (transnational) وليست "تقليدية"، كما هي الحال مع الأكراد أو الصرب.

المهمّ من اليوم فصاعدًا ألّا نعيد النقاش إلى أمكنة لا علاقة لها بأصل الموضوع، مثل الانسحاب الإسرائيلي من النقاط الخمس، أو حقّ لبنان بـ "المقاومة"، أو غيرها من الترّهات، بل التعامل مع السلاح على قاعدة ما يقوله أصحاب السلاح: سلاح مذهبيّ ذو أهداف مذهبية وقاعدة دعم مذهبية. وبما أن لا "مطالب" قابلة للتحقّق في هذا المسار المذهبيّ، إذًا لا جدوى من كثرة النقاش، ولا مفرّ من مواجهة السلاح بعنوان الدولة وأدواتها الغليظة. عندها، لن يجد "حزب اللّه" الكثير من الشيعة إلى جانب مشروعه الإيراني، إلّا ربّما أمثال أولئك الذين تجمّعوا يومًا ما على قارعة الطريق، مطلقين الشعار "الحقيقي" الوحيد في قاموس "حزب اللّه": شيعة شيعة شيعة.