شينكر: عقوبات على برّي ومن يعرقل التّقدّم...السيناريو المفضّل لبيروت الاعتداءات الاسرائيلية؟؟

لا يجد ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية الأميركية السابق لشؤون الشرق الأدنى، سبباً لـ”رضى” المبعوث الأميركي الخاصّ توم بارّاك على الردّ الأوّلي للحكومة اللبنانية على الرسالة الأميركية التي تطالبها “باتّخاذ خطوات فوريّة لنزع سلاح “الحزب” والميليشيات الأخرى”، ويرى أنّ “واشنطن تخاطر مجدّداً بالسماح للمسؤولين اللبنانيّين بالتراجع عن تنفيذ تعهّدهم بنزع سلاح “الحزب” وتنفيذ الإصلاحات الماليّة، وبالسماح لهم مرّة أخرى بالتراجع عن هذه المهامّ الحاسمة”.

وجهات نظر متباينة

يشير شينكر في هذا السياق إلى تقارير غير مؤكّدة من لبنان وإسرائيل (إلى) تفيد أنّ بيروت جدّدت التزامها نزع سلاح “الحزب” جنوب نهر الليطاني بحلول الموعد النهائي، على أن يتمّ نزع السلاح على نطاق أوسع في وقتٍ لاحق. ويعتبر أنّه إذا صحّت هذه الشائعات، فإنّ “الجماعة الإرهابية المدعومة من إيران ستحتفظ بأسلحتها، وستُؤجّل فرصة لبنان في تحقيق السيادة، أو حتّى تؤدّي إلى تضييعها بالكامل”.

في رأيه أنّ “وجهات النظر تختلف بين واشنطن وبيروت بشأن مدى إلحاح الإجراءات المتمثّلة بمصادرة الحكومة اللبنانية أسلحة “الحزب” وتفكيك بنيته التحتيّة العسكرية في جميع أنحاء الدولة وتنفيذ إصلاحات ماليّة شاملة. فبينما قوّمت إدارة دونالد ترامب بشكل صحيح أنّ الوقت المناسب لاتّخاذ إجراء جريء هو الآن، لأنّ “الحزب” في أضعف حالاته منذ عقود، لكنّه قد يعيد بناء نفسه مرّة أخرى في غياب جهود لبنانية استباقية لتعزيز هذا التدهور، تماماً كما حدث بعد حرب عام 2006، يبدو أنّ بيروت حسبت أنّ تجنّب مواجهة كبرى مع “الحزب” أكثر إلحاحاً من نزع سلاحه، وهو استنتاج لا يستند فقط إلى السجلّ الحافل للجماعة في اغتيال المعارضين السياسيّين، بل وإلى الخوف الأكثر عموميّة من إحياء الحرب الأهليّة التي ظلّت كامنة لفترة طويلة في البلاد”.

الحوار للمماطلة

يعتبر شينكر، الذي كان المستشار الرئيسي لوزير الخارجية في شؤون الشرق الأوسط والمسؤول الأوّل المشرف على سير السياسة الأميركية والعمل الدبلوماسي في أنحاء المنطقة الممتدّة من المغرب إلى إيران واليمن، أنّ إعلان الرئيس جوزف عون منذ البداية أنّ بيروت لن تُجبر “الحزب” على نزع سلاحه بل تسعى إلى إقناعه بالتخلّي عنه عبر المفاوضات أو الاندماج مع القوّات المسلّحة اللبنانية، ينطوي على إشكاليّة. فدمج “الحزب” في الجيش اللبناني قد يُهدّد بتقويض إحدى المؤسّسات الوطنية القليلة العاملة في لبنان.

يضاف إلى ذلك، وفق شينكر، أنّ العقدين الماضيين أثبتا أنّ هذا النوع من الحوار لم يكن سوى تكتيك للمماطلة بالنسبة لـ”الحزب” والحكومات اللبنانية المتعاقبة، فهو يتعامل مع مناقشات “استراتيجية الدفاع الوطني” على أنّها كناية عن الحفاظ على ترسانته وتطويرها. ويشير في هذا السياق إلى إعلان الأمين العامّ لـ”الحزب” نعيم قاسم أنّه لن يُناقش “استراتيجية الدفاع الوطني” أو التصرّف في أسلحته حتّى تنسحب إسرائيل بالكامل من الأراضي اللبنانية، وإلى قوله ردّاً على إنذار بارّاك: “من حقّنا أن نقول لا لهم، لا لأميركا، لا لإسرائيل”. وتبنّى “الحزب” نبرة استفزاز وتحدّ بالتلويح بأسلحته في شوارع العاصمة خلال إحياء ذكرى عاشوراء في 5 تمّوز.

بالنسبة لشينكر، الوضع الراهن مُخيّب للآمال، خاصّةً بالنظر إلى التفاؤل الأميركي والإسرائيلي بعد وقف إطلاق النار في تشرين الثاني. ويعتبر أنّ جهود الجيش اللبناني لنزع سلاح “الحزب” شمال الليطاني لم تكن قويّةً، ولم تتعثّر لعدم رغبة الجيش اللبناني، بل بسبب الافتقار إلى التوجيه السياسي من بيروت.

لم تعتمد الحكومة اللبنانية بعدُ الإصلاحات الماليّة اللازمة. إذ على الرغم من وجود حاجة ماسّة إلى تشريعات جذرية لإخراج الدولة من الأزمة التي أدّت إلى انخفاض قيمة العملة بنسبة 98% منذ عام 2018، وانكماش الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 40%، وخسائر مصرفيّة بلغت ما يقرب من 80 مليار دولار، فإنّ البرلمان، بقيادة الرئيس نبيه برّي، الحليف لـ”الحزب”، لم يعتمد حتّى الآن سوى إجراء واحد من هذا القبيل، وهو قانون السرّية المصرفية. ولا يزال المشرّعون يتردّدون في اتّخاذ قرارات تقشّفيّة صعبة وربّما غير شعبيّة قبل الانتخابات التشريعية العام المقبل.

سوريا رهان أكثر إيجابيّة من لبنان

بحسب شينكر “أحبط فقدان الزخم داعمي لبنان الأجانب، مع تحوُّل اهتمام واشنطن ودول الخليج بشكل متزايد نحو أولويّات إقليمية أخرى. وعلى الرغم من كلّ الصعوبات، يبدو أنّ سوريا حلّت محلّ لبنان باعتبارها الرهان الأكثر إيجابيّة. وخلال زيارته للرياض في أيّار، ذكر الرئيس ترامب لبنان علناً مرّة واحدة فقط، لكنّه التقى مباشرة الرئيس السوري الجديد وذكر أنّه سيرفع جميع العقوبات المفروضة على دمشق. وتتدفّق الآن أموال الخليج المخصّصة لإعادة الإعمار إلى سوريا، في حين يقبع لبنان تحت أنقاض الحرب. بالإضافة إلى ذلك، يعقد المسؤولون السوريون اجتماعات مع إسرائيل، ويدرسون، بحسب التقارير، علاقات أكثر تطبيعيّة مع القدس، في الوقت الذي يتنازع فيه المشرّعون اللبنانيون على أفضل السبل لاسترضاء الميليشيات الإرهابية التي جلبت الدمار العسكري الإسرائيلي المتكرّر على بلادهم.

في رأي شينكر “كان يجب أن يكون ردّ لبنان على إنذار بارّاك نقطة تحوّل. فلو أكّدت بيروت أنّها ستتّخذ خطوات أكثر استباقية لمصادرة ما بقي من أسلحة “الحزب”، لكانت الولايات المتّحدة ضغطت من أجل وقف الغارات الجوّية الإسرائيلية وانسحاب القوّات الإسرائيلية الباقية وإحراز تقدّم في ترسيم الحدود وإعادة الإعمار بعد الحرب. وبدلاً من ذلك، كان بارّاك تصالحيّاً لسبب غير مفهوم تجاه “الحزب”، واصفاً وكيل إيران الإرهابي الرئيسي في الشرق الأوسط بأنّه “حزب سياسي” “له أيضاً جانب عسكري”.

عقوبات على برّي ومن يعرقل التّقدّم

يعتقد شينكر أنّ الإدارة الأميركية تحاول إقناع “الحزب” بالاستسلام، لكنّ، في رأيه، هذا الوقت بالتأكيد ليس مناسباً للتساهل مع “الحزب” أو بيروت، بل لدى واشنطن عدّة خيارات أخرى:

  • فرض عقوبات على نبيه برّي وغيره من البرلمانيّين الذين يعرقلون التقدّم.
  • إبطاء دعم الولايات المتّحدة للمؤسّسات المالية الدولية التي ستموّل إعادة إعمار لبنان (مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، وتشجيع المانحين الآخرين على القيام بالمثل. سبق للمملكة العربية السعودية أن حذّرت بيروت، بشكل مستقلّ، من عدم وصول أيّ مساعدات ما لم ينزع “الحزب” سلاحه.
  • إنهاء مهمّة حفظ السلام التابعة للأمم المتّحدة أو تقليصها بشكل جذري. قد يدفع تغيير هذه الديناميكيّة المضطربة بيروت إلى التحرّك.
  • التعامل بجدّية أكبر مع استهداف نفوذ “الحزب” داخل الدولة اللبنانية. ولكسر قبضته على المؤسّسات الأمنيّة اللبنانية، ينبغي على إدارة ترامب استهداف كبار المسؤولين في هذه المؤسّسات المتواطئين مع “الحزب”. ويمكن لواشنطن الضغط على الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي لإنهاء تنسيقهما مع “الحزب”.

لا يستبعد شينكر أن تواصل إسرائيل غاراتها الجوّية على أهداف “الحزب” في جميع أنحاء البلاد. بل ويعتبر، نظراً لتردّد الحكومة اللبنانية الراسخ في مواجهته، أنّ العمل العسكري الإسرائيلي قد يكون هو السيناريو المفضّل لبيروت.

يخلص إلى القول: على مدى العقود التي تلت الحرب الأهليّة، راهن المسؤولون اللبنانيون على القضايا الصعبة لتجنّب إعادة إشعال ذلك الصراع المدمّر، ويتوافق ردّهم الواضح على قضيّة بارّاك مع هذا النهج. ومع ذلك، ليس من “الآمن” الاستمرار في تأجيل مشكلة أسلحة “الحزب” التي غالباً ما كانت موجّهة ضدّ الشعب اللبناني أو كانت سبباً في هجمات إسرائيلية.

من الواضح أنّ الحكومة الجديدة في بيروت تريد إنهاء الضربات الإسرائيلية والحفاظ على علاقتها بواشنطن. ولكن ما دام “الحزب” يحتفظ بقدراته العسكرية الباقية، فإنّ السياسة اللبنانية لن تعكس الواقع الجديد بعد الحرب، وسيظلّ تحقيق السيادة أمراً صعباً.