صخب "الميلاد" وعواصفه: عودة الاستهلاك وإنكار الطوفان

من بيروت إلى شمال لبنان، تطغى أجواء الميلاد الصاخبة مصحوبة بعواصف وأمطار طوفانية، تفضح سنويًا قصور الدولة وفسادها، الذي يتفجر في البنى التحتية ومن تحت أقدام اللبنانيين، فيغرقون بفيضان الطرقات من حيث لا يحسبون. وعلى هذا الأوتوستراد الدولي، يبدو موسم الأعياد نموذجًا للعاصمة، التي تتحول إلى مركز الازدحام نحو مختلف تفرعاتها شمالًا وجنوبًا وبقاعًا وجبلًا. 
قد تكون ضجة شهر الأعياد مبررًا لبقاء اللبنانيين عالقين ساعات إضافية على الأوتسترادات الدولي، خصوصًا مع وصول أكثر من 18 ألف وافد يوميًا إلى مطار بيروت في هذا الموسم، استعدادًا للميلاد ورأس السنة. لكن بهجة الأعياد، تكشف أيضًا بؤس العيش في بلد غير قادر على استيعاب "أمطار الميلاد" وما قبله، التي من المفترض أن تكون بشرى خير وولادة جديدة. لكن، أين اللبنانيين من طوفان الأعياد؟  

ميلاد الشمال 
كحال بيروت، يعيش شمال لبنان أجواءً استثنائية في العيد، قياسًا مع سنوات ما بعد الانهيار في خريف 2019. لكن الاستثناء هنا، والذي يعمّ كل لبنان، مصحوب بالتناقض بين العودة للإفراط بالاستهلاك، وبين إنكار الأزمة الاقتصادية و"الغرق بالأمطار" ومخاطر الحرب التي تلوح من الجبهة الجنوبية. وكأن داخل لبنان وأطرافه في موسم العيد، ليس هو نفسه لبنان المهدد بعدوان إسرائيل يبدأ من الجنوب.  

في طرابلس، تعود أسواقها إلى نقطة استقطاب مختلف قرى وبلدات الشمال في الكورة وزغرتا وإهدن وعكار. ومنذ أسابيع تضج الأسواق بالناس من الصباح حتى ساعات الليل، وهو الحال أيضًا في الميناء التي تتفرد هذا العام بأجوائها الميلادية، مع مشروع إعادة تأهيل أحيائها القديمة.  

واللافت هنا، أن الاحتفاء بالميلاد تتشاركه شريحة واسعة من المسلمين مع المسيحيين شمالًا، كتتويج لفرصة نهاية العام. في شارع عزمي في طرابلس، تخبرنا صاحبة أحد محال الألبسة أنها تعيش حالة ذهول من حجم مبيعاتها المرتفعة هذا الموسم، وأنها فاقت توقعاتها، مما أدى لنقص بالبضائع التي استوردتها من الخارج. يجمع باعة المحال التجارية والمقاهي المكتظة، أن الناس أصبحت تستهلك كامل مدخولها، ومن دون حساب، رغم التضخم والغلاء، على قاعدة أن البلد بلا أفق وأن الادخار فيه بلا جدوى، وإنكار للواقع أيضًا.  

أما في الميناء، حيث ما زالت تسكن أحياءها القديمة مئات الأسر المسيحية، فتبدو أجواء الميلاد دافئة وحميمة، خصوصًا في شارعي "فرح أنطون" و"مينو" ومحيطهما.  

يعيش شارع يعقوب اللبان القديم (أو "مينو")، أول ميلاد بعد الترميم، حيث تنتشر زينة العيد على أطراف المقاهي والبارات والحانات، وتتدلى من أبنيته السكنية القديمة.  

في الأقضية
ورغم إدراك اللبنانيين بأن الحركة الكثيفة في شهر الأعياد وارتفاع معدلات الاستهلاك لمستويات قياسية، لا يعكس تعافي الاقتصاد ولا يعني خروج لبنان من أسوأ أزمة في تاريخه، لكنه هذا العام ينعكس في ازدهار أصحاب المصالح الخاصة، من محال تجارية وألبسة ومقاهي ومراكز ترفيه.  

وفي مختلف أقضية الشمال، نصبت في معظم المستديرات والساحات شجرة الميلاد. وبين معارض يدوية، وأخرى تحمل أفكاراً لأجمل الهدايا، تحضُر الحفلات والمسرحيات.  

وفيما تضج منطقة بنشعي في قضاء زغرتا بآلاف الزوار يوميًا على ضفاف بحيرتها احتفاء بالعيد، أنذرت عاصفة مساء الجمعة بالكوارث، بعدما انجرفت التربة بمزيارة في زغرتا، مما أدى لسقوطها على سطح غرفة تقطنها عائلة من اللاجئين السوريين، فقتل 4 أطفال كانوا بداخلها. 

وبين تفاقم مخاطر الكوارث الناجمة عن العواصف والأمطار، وبين سخونة جبهة الجنوب في المواجهة بين حزب الله والقوات الإسرائيلية، وبين بقاء الدولة عاجزة عن حماية لبنان من كل هذا ومن تداعيات الانهيار، يواصل اللبنانيون عيش موسم الأعياد، بأقصى ما لديهم من قدرة على الفرح، وعلى الهرب من الواقع أيضًا.