صفقات الفيول... هدر 8 مليون دولار سنوياً بلا رقابة

يعيش إنتاج الكهرباء على ما تؤمّنه بواخر الفيول لمعامل الإنتاج، سواء الفيول المستورد مباشرة، أو المستبدل بزيت الوقود العراقي، الذي يشكِّل المصدر الأساس لإمداد المعامل بالفيول. وحركة الفيول محكومة بحركة البواخر التي تنقله إلى لبنان وفق مناقصات، هي أشبه بدهاليز لا تُعرَف تشعّباتها. أمّا المسؤوليات، فضائعة بين ما يحدده القانون وما يفرضه عرف التسويات اللبنانية. وعليه، يبقى ملفّ بواخر الفيول أحد أكثر الملفّات الشائكة التي تهدر المال العام، فيما الجهات الرسمية المفترض بها إدارة الملفّ، إمّا غائبة تماماً أو لا تديره بالشكل الصحيح.

اختصار المهام والمسؤوليات

أدّى انكشاف فضيحة الباخرة HAWK III التي حملت فيول بشهادة منشأ مزوَّرة، إلى فتح ملف البواخر التي تشحن الفيول إلى لبنان. فإذا كانت هذه الباخرة قد اكتُشِف أمر التزوير في أوراقها، فكم من باخرة مَرَّت ولم تُكشَف؟. 

بغياب الرقابة الفعلية، يصبح من السهل تمرير تزوير شهادات المنشأ، خصوصاً وأنّ نوعية الفيول الآتي إلى لبنان ليس مغشوشاً. والربح المادي من تزوير شهادة المنشأ لا يقل شأناً عن الغش بالنوعية. فشهادة المنشأ المزوّرة، تخفي السعر الحقيقي للفيول، وهنا تكمن اللعبة، إذ يُشرى الفيول بسعر منخفض من منشئه الأصلي، وهو في الوقت الراهن من روسيا، ويباع بسعر أعلى استناداً إلى شهادة منشأ من دولة أخرى. وينطوي ذلك على هدر للمال العام بملايين الدولار سنوياً.

تبدأ الرقابة في هذا الملف انطلاقاً من الالتزام بمسار التلزيم وصولاً إلى الفحص الدقيق لنوعية الفيول وتتبٌّع المنشأ، وهو أمر ليس صعباً. والاعتماد على المسار الصحيح، يبدأ بقيام المديرية العامة للنفط بدورها في استيراد الفيول، وهي المفترض بها، بناءً للمرسوم 6821 تاريخ 28/12/1973، أن تتولّى "صلاحيات ومهام عدة في قطاع النفط، منها استيراد النفط الخام ومروره عبر الأراضي اللبنانية وتكريره محلياً. اتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين حاجة البلاد إلى المحروقات السائلة. جمع المعلومات الإحصائية الخاصة بإنتاج واستيراد وتصدير واستهلاك المنتجات النفطية. إعداد الدراسات الاقتصادية اللازمة لرسم سياسة الدولة المتعلقة بشؤون النفط، لوضع مخططات طويلة الأمد بالنسبة لصناعة النفط ولتموين البلاد بالمحروقات السائلة. منح إجازات استيراد أو تصدير المنتجات المكررة للنفط ومشتقاته والمنتجات البيتروكيميائية".

وعلى مستوى عقد المناقصات العمومية لاستيراد الفيول، فإن مؤسسة كهرباء لبنان هي المرجع المعني بإجراء المناقصات المتعلّقة بالاستيراد لصالح معاملها. إذ لديها استقلاليتها المالية، ما يجعلها في حلٍّ من إسناد المناقصات لوزارة الطاقة وتأمين كلفة الفيول عبر سلفات الخزينة والقروض. إلاّ أنّه، ولسنوات طويلة، اختصر وزراء الطاقة المتعاقبين، مهام المؤسسة، وباتوا هم الآمر الناهي في ما يخصّ مشاريع الكهرباء، ومن ضمنها بواخر الطاقة والفيول.

واستناداً إلى هذا الواقع، قالت مصادر في مؤسسة كهرباء لبنان في حديث إلى "المدن"، إنّ المؤسسة "لا علاقة لها بموضوع الفيول لا من قريب ولا من بعيد". ولأنّ الحدث الأخير المرتبط بالفيول، جاء من زاوية تزوير شهادة المنشأ، أكّدت مصادر في وزارة الطاقة لـ"المدن" أنّ الوزارة "لا تستطيع معرفة المنشأ الحقيقي لشحنة الفيول طالما أنّ شهادة المنشأ غير مزوّرة وصادرة بشكل صحيح عن المرفأ التركي".

هدر ملايين الدولارات سنوياً

بلغ تزوير شهادات المنشأ حداً بعيداً، إذ كشفَ رئيس لجنة الأشغال والطاقة النيابية النائب سجيع عطية، أنّ "هناك شحنات فيول بشهادات منشأ غير صحيحة، ولم تُكشَف". ولفت النظر في حديث لـ"المدن"، إلى أنّ "أكثر من نصف البواخر التي تأتي إلى لبنان، تحمل فيول بشهادات منشأ غير صحيحة". وهذا يتيح للمستفيدين منها، تأمين ربح يتراوح "بين 7 إلى 8 ملايين دولار سنوياً. تُهدَر من المال العام".

في المقابل، يمكن للدولة "استيراد الفيول لصالح مؤسسة كهرباء لبنان، مباشرة عبر منشآت النفط، وتخزينها في خزانات المنشآت. وفي هذه العملية يمكن تحقيق وفر بنحو نصف الكلفة، وينعكس ذلك وفراً على الناس". وأوضح عطية أنّ هذا الهدر "يتعلّق فقط بما يستورده القطاع العام، فهناك القطاع الخاص الذي لا رقابة فعلية على ما يستورده ويُدخله إلى السوق". وجزء كبير من هذه المحروقات التي يستوردها القطاع الخاص "تذهب إلى سوريا عن طريق التهريب". وللحدّ من الغش في النوعية والمنشأ، اقترح عطية "شراء أجهزة تتبّع للسفن، عبر الأقمار الاصطناعية. وعندها يمكن معرفة المنشأ الفعلي لحمولتها".

الطاسة ضائعة

بتخلّي بعض الجهات عن مهامها، ودخول جهات أخرى على خط مهام ليست من صلاحياتها "ضاعت الطاسة"، على حدّ توصيف المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة، ومحلل سياسات الشراكة بين القطاعين العام والخاص في المعهد اللبناني لدراسات السوق، غسان بيضون، الذي رأى في حديث إلى "المدن" أنّ مؤسسة كهرباء لبنان "هي مَن عليه إجراء المناقصات ودفع ثمن الفيول، لكنّها تتصرّف اعتباراً من أنّ الدولة هي من تأتي بالفيول وتدفع ثمنه، على قاعدة أنّ مَن يدفع، هو مَن يجري المناقصة".

وضياع الطاسة، استناداً إلى المَثَل الشعبي، يطال أجهزة الرقابة، وفق بيضون الذي اعتبر أنّ "وزاة الطاقة التي تجري المناقصات وتستورد الفيول وتدفع ثمنه، عليها الخضوع لديوان المحاسبة، لكن لا الديوان يتحرّك بشكل فعلي، ولا التفتيش المركزي، حتى بتنا نرى شحنات الفيول تمرّ بسلام وبلا ضجيج او سؤال، وكأنّ لا أحد معنياً في هذه الدولة".

تحمل مؤسسة كهرباء لبنان جزءاً كبيراً من المسؤولية، ففي السابق "كانت مديرية الإنتاج في المؤسسة، هي المعنية بالتأكّد من نوعية الفيول، إذ كان من المفترض بالمديرية وضع تقرير شهري يتضمّن كم استلمت من فيول وكم هي الكمية التي استعملت في إنتاج الطاقة، وبموجب التقارير تجري المديرية تقييماً لحجم استهلاكها، فيسهل تبيان الخلل في حال حصوله، كمّاً ونوعاً". وأضاف بيضون أنّ المديرية "كانت تلاحق الباخرة والعيّنة وتتأكّد من نتائجها".

وأيضاً، لفت بيضون النظر إلى أنّ "لجنة الاستلام في المؤسسة كانت تلعب دوراً في تبرير دفع ثمن الفيول. إذ كان عليها استلام الفيول بكميات وموصفات محددة، ولا يتوجّب الدفع إلاّ وفق محضر". ورفض بيضون عملية "تجزئة المهام بين المؤسسة والوزارة والمنشآت".

وكانت مؤسسة كهرباء لبنان تملك مساحة واسعة من الرقابة والعمل الإداري الصحيح في ملف معامل الإنتاج، لكن مع القفز فوق الصلاحيات وابتداع صلاحيات مصطنعة خلافاً للقانون، يواصل قطاع الكهرباء بالتوازي مع قطاع استيراد المشتقات النفطية، وبعض الجهات السياسية، تعقيد شبكة المصالح إلى حدّ يبدو فيه تصحيح المسار، شبه مستحيل.