صفقة "التردّدات": شراكة مافيويّة بين الطبقة الحاكمة والقطاع الخاصّ... والقرار الاتّهامي قد يطال وزراء

ذكرت صحيفة "النهار" ان "ما يُسمّى "الدولة العميقة" Deep State في لبنان يتجلى بشبكات السلطة السياسية وتداخلها مع بعض رجال الاعمال والنافذين في مختلف القطاعات الحيوية من تجارية وصناعية وخدماتية. الهدف هو حماية مجموعة من شبكات المصالح المختلفة بما في ذلك حماية الاحتكارات والكارتيلات في مختلف المجالات، واستغلال موارد الدولة وخزينتها من خلال التعاقد مع شركات خاصة من دون تأمين الحد الادنى من العائدات المستحقة للدولة اللبنانية ومن دون تحقيق الإفادة المرجوّة للمواطنين."

وتابعت الصحيفة في مقال للكاتبة سلوى البعلبكي ان "صفقة شراء "نظام إدارة ومراقبة الطيف الترددي" بقيمة 11 مليون يورو عام 2014، تمثل نموذجاً لسطوة الطبقة الحاكمة بالاشتراك مع بعض #القطاع الخاص الاستغلالي للإجهاز على بنية الدولة وقدراتها وخزينتها وقطاعها العام، إذ غالباً ما يُطرح موضوع "إصلاح القطاع العام" وهو مطلب محق لجهة ترشيق الإدارة بعد مسار طويل من حشو الأزلام من السياسيين، بيد أن المشكلة الاساسية تظهر في الشراكة المافيوية بالعمق بين أهل السياسة وبعض القطاع الخاص لاستنزاف موارد الدولة حتى الرمق الأخير، وهذا هو الوجه الرئيسي للدولة العميقة. فطريقة إجراء الصفقات بملايين الدولارات من بعض الوزراء خارج الأطر القانونية والأصول الادارية المتبعة، بالتكافل والتضامن مع بعض القطاع الخاص، تنجح دائماً في مسعاها بوجود إدارة عامة متماهية مع طلبات الوزير، والامثلة هنا لا تعد ولا تحصى. أما في حال التصدي لمثل هذه الصفقات "المشبوهة" من الإدارة والمديرين العامين، فغالباً ما تنتهي بتوافق السلطة الحاكمة على إزاحة المدير العام لإخلاء الطريق للوزراء للقيام بهذه الصفقات دون حسيب أو رقيب."

وفي السياق اشارت الصحيفة الى ان  صفقة شراء "نظام إدارة ومراقبة الطيف الترددي" تخضع اليوم لتحقيق لدى ديوان المحاسبة، لكون وزير الاتصالات السابق نقولا الصحناوي ألزم شركتي الخليوي شراء النظام من شركة خاصة محلية (ممثلة لشركة أجنبية) لمصلحة المديرية العامة للاستثمار والصيانة في الوزارة، من دون علم الأخيرة، إذ علم المدير العام السابق عبد المنعم يوسف بالموضوع بعد تولي الوزير بطرس حرب مهامه في وزارة الاتصالات، فتوجه بمراسلة رسمية للوزير يفند فيها المخالفات القانونية والادارية والتقنية للصفقة التي قام بها الوزير صحناوي، ونظراً لفداحة المخالفات رفض الوزير حرب المضي في الصفقة. وبالرغم من الضغوط الكبيرة من بعض المراجع العليا التي مورست على يوسف لتغيير موقفه، أصر على رفض استكمال الصفقة، الى أن حصلت التسوية الرئاسية، وتسلم حينها الوزير جمال الجراح مهام وزارة الاتصالات، وتوازياً استُبعد يوسف في أول جلسة لمجلس الوزراء في العهد الجديد، وأكمل الجراح إتمام الصفقة."

أما لجهة المخالفات، فأشارت المصادر لـ"النهار" الى أنه "تم تلزيم المشروع في عام 2014 من شركتي الخليوي بناءً على كتاب من وزير الاتصالات خلافاً للآليات القانونية والادارية والأنظمة والقوانين المعمول بها لتلزيم المشاريع في وزارة الاتصالات، إذ لم يتم هذا التلزيم عبر إعداد دفاتر شروط ومناقصات أو استدراج عروض منفذة حسب الاصول عبر المديرية العامة للإنشاء والتجهيز أو المديرية العامة للاستثمار والصيانة. كما لم يتم التلزيم عبر إعداد دفاتر شروط ومناقصات أو استدراج عروض عملاً بالآلية المعمول بها في شركتي الخليوي وذلك بالتنسيق مع هيئة المالكين (GSM CAPEX committee)، ليصار بعدها إلى توجيه كتاب من وزير الاتصالات الى الشركة المعنية لاستكمال إجراءات التلزيم، بالاضافة الى أن أعمال ومهام إدارة ومراقبة الطيف الترددي لا تدخل ضمن الأعمال والمهام التي ينص عليها عقد الادارة الموقع مع شركتي الخليوي وهي لا تدخل في نطاق نشاطات صيانة وتشغيل واستثمار شبكتي الخلوي، فضلاً عن أن إدارة ومراقبة الطيف الترددي هي من اختصاص ومهام المديرية العامة للاستثمار والصيانة – مصلحة الاستثمار الداخلي وهي المسؤولة عن صلاحيات مراقبة الطيف والترددات وإعطاء التراخيص لاستعمال الترددات (حسب مرسوم تنظيم وزارة الاتصالات 1980/3585).

وشركتا الخليوي مسؤولتان، بموجب عقد الادارة الموقع معهما، عن تشغيل وصيانة شبكتي الخليوي، ولا علاقة لهما بمهام إدارة ومراقبة الطيف والترددات بأي شكل من الاشكال أو إصدار تراخيص استعمال الترددات واستيفاء الرسوم الناتجة عنها. 

أما لجهة كلفة الصفقة، فتم شراء الأنظمة بأسعار أعلى بكثير (نحو 4 أضعاف من السعر الذي حصلت عليه الهيئة المنظمة للاتصالات لشراء نظام مشابه ومن نفس المورد الخارجي خلال عام 2009. فبعدما كان سعر هذا النظام في لعام 2009 نحو3.5 ملايين دولار، بلغ ضمن هذه الصفقة ما يفوق 12 مليون يورو، من دون أيّ تفسير لذلك أو أيّ توضيح. إضافة الى ذلك لم يتم الحصول من أي جهة على أيّ نسخة عن العقود الموقعة بين شركتي الخليوي والشركة الموردة لهذا النظام، وذلك بحجة أنه لا توجد عقود لذلك، بل تم شراء هذا النظام بموجب أمر شراء مباشر دون تحديد أي سبب يبرر هذه المخالفة الكبيرة. والنظام الذي تم شراؤه بموجب أمر شراء وليس بموجب عقد إداري وتقني لا يغطي كامل الأراضي اللبنانية بل جزءاً منها، ولم يتم الحصول من مختلف الفرقاء المعنيين على خريطة تقنية تبين الرقعة الجغرافية التي يغطيها هذا النظام. كذلك تمت تجزئة المشروع الى قسمين لا قيمة لكل واحد منهما من دون القسم الثاني. وهذا الأمر مخالف لقانون المحاسبة العمومية على اعتبار أنه لا تجوز تجزئة الصفقات. تجدر الإشارة الى أن الوزير صحناوي قبل سنتين من الصفقة طلب من شركة تاتش في عام 2012 شراء نظام لإدارة ومراقبة الطيف الترددي بمبلغ يلامس 700 ألف دولار وهو يفي بحاجة الشركة، فلماذا الإصرار من صحناوي على إتمام هذه الصفقة في عام 2014؟

 

وفيما يحقق رئيس الغرفة القضائية المختصة في ديوان المحاسبة القاضي عبد الرضى ناصر اليوم في صفقة يقدر الهدر الحاصل فيها بملايين الدولارات، توضح المحامية الدكتورة جوديت التيني أن أصول العمل في الديوان تقضي بوضع إطار عام للملف من خلال التحقيقات التي تُجرى في الغرفة، وتجميع كل المعلومات ضروري.

 

وكان قد ورد الى ديوان المحاسبة بتاريخ 12 شباط /2021 كتاب وزير الاتصالات في حينه الذي طلب بموجبه التحقق من قانونية شراء شركتي الخلوي لمعدات وتجهيزات لمصلحة المديرية العامة للاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات. وبعده أصدر الديوان الرأي الاستشاري رقم 2021/53 تاريخ 26/10/2021 الذي خلص الى أن أصول التعاقد المتبعة وإجراءاتها، على النحو المبين، قد تشكل مخالفات مالية تخضع لصلاحية الغرفة المختصة.

وهذا أمر أساسي بموجبه يستمد الديوان اختصاصه في النظر بالقضيّة، وفق ما تقول التيني. فالديوان يقوم بتقدير المعاملات المالية، وفقاً لقانون المحاسبة العمومية، في كل مراحلها من حين عقدها مروراً بتنفيذها وصولاً الى قيدها في الحسابات تمهيداً لاتخاذ القرارات المناسبة بالشأن .

 

وقد طلب القاضي ناصر في مذكرة أرسلها الى الهيئة المنظمة للاتصالات تزويد ديوان المحاسبة خلال 20 يوماً من تاريخ تبلغها بتقرير مفصل وشامل عن المشروع العائد لشراء نظام إدارة ومراقبة الطيف الترددي من شركتي الخلوي، على أن يشمل أيضاً الاجابة عن أهم التساؤلات الواردة في كتاب المدير العام للاستثمار والصيانة في ذلك الوقت عبد المنعم يوسف.

 

وفي انتظار انتهاء مهلة العشرين يوماً لورود الرد على هذه المذكرة التي منحها القاضي ناصر لمدير إدارة الترددات في الهيئة المنظمة للاتصالات (قد يصل الرد قبل انقضاء هذه المهلة)، تؤكد التيني أن الملف لا يزال في مرحلة التحقيق، أما المرحلة اللاحقة فمن الممكن قانوناً أن تكون لإصدار "قرار اتهامي" ولا مانع من أن يكون القرار الاتهامي على مستوى وزراء.

هذه الصفقة تشكل نموذجاً فاضحاً لعمل الدولة العميقة وترابطها العضوي بين الطبقة الحاكمة وبعض القطاع الخاص، وهي واحدة من الصفقات الكثيرة الأخرى في وزارة الاتصالات التي تمت بعد إزاحة المدير العام عبد المنعم يوسف، إذ تناول ديوان المحاسبة بالتفصيل هذه الصفقات في تقاريره الثلاثة عن وزارة الاتصالات، التي صدرت خلال العامين الماضيين.