صفقة نتنياهو و"تيك توك": المخاطر العربية وامتدادها اللبناني

أثار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو جدلاً واسعاً بتصريحه الأخير، في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك يوم 26 أيلول/سبتمبر الماضي، عندما تحدّث عن نموذج، "إسرائيل سبارتا"، بوصفها القوة العسكرية الأقوى في الشرق الأوسط والتي تتمتع بقدرات تكنولوجية هائلة، ووصف منصات التواصل الاجتماعي بأنها "سلاح" بيد إسرائيل في معركتها السياسية والإعلامية، مشيراً إلى أن "تيك توك" هو "أهم عملية شراء جارية حالياً"، ومُلمِّحاً أيضاً إلى ضرورة الانخراط مع إيلون ماسك لضمان نفوذ على منصة "إكس" (تويتر) سابقاً.

هذا التصريح لا يمكن قراءته على أنه مجرد زلة لسان أو دعاية سياسية عابرة، بل يعكس إدراكاً إسرائيلياً متزايداً أن المعركة لم تعد تُخاض فقط في ميادين القتال، بل أيضاً في الفضاء الرقمي. فخلال الحرب على غزة، لعبت منصات التواصل الاجتماعي دوراً مركزياً في فضح حجم الدمار والضحايا، ونقل الصور والفيديوهات والشهادات التي شكّلت تحدياً مباشراً للرواية الإسرائيلية الرسمية. 

ملايين المستخدمين حول العالم باتوا يطّلعون يومياً على مشاهد القصف والدمار في غزة من خلال مقاطع قصيرة تُنشر على "تيك توك"، أو يُعاد تداولها عبر X و"إنستغرام"، مما جعل هذه المنصات مساحةً يصعب ضبطها أو التحكم فيها بالكامل.

إنفلات رقمي

بالنسبة لإسرائيل، هذا الانفلات الرقمي يهدّد قدرتها على تسويق خطابها السياسي والإعلامي، خصوصاً لدى الرأي العام الغربي. ففي الولايات المتحدة مثلاً، أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تراجعاً ملحوظاً في التأييد الشعبي لإسرائيل، لا سيما بين الأجيال الشابة التي تعتمد بشكل أساسي على "تيك توك" للحصول على الأخبار والمعلومات. هنا يصبح منطق "شراء" المنصة مفهوماً: فامتلاك النفوذ في خوارزميات "تيك توك" أو التحالف مع مالك "اكس"، يفتح الباب أمام إعادة صياغة ما يراه الجمهور، وكيفية ترتيب المحتوى، وأي رواية تُعطى الأولوية على حساب الأخرى.

خطورة الصفقة

لكن هذه الخطوة، إذا تمت، تحمل مخاطر جسيمة على مصداقية الفضاء الرقمي. فحين تدفع دولة ما، طرف في نزاع دموي، باتجاه السيطرة على المنصات التي يُفترض أنها ساحات مفتوحة، فإن ذلك يعني تهديد التعددية وإضعاف حرية التعبير، بل تحويل هذه المنصات إلى أدوات دعاية رسمية. وهو ما سيؤدي حتماً إلى اهتزاز ثقة الجمهور العالمي بالمنصات ذاتها، وإلى تعزيز الشكوك حول خضوعها لأجندات سياسية وأمنية.

في المقابل، لا يمكن تجاهل الدور الفعلي الذي لعبته وسائل التواصل في كشف حجم المأساة الإنسانية في غزة. آلاف الفيديوهات التي بثّها مواطنون وصحافيون محليون نقلت واقع المستشفيات المدمّرة، الأطفال تحت الأنقاض، والعائلات التي تُقتل تحت القصف. هذه الشهادات الرقمية شكّلت رواية مضادة كاملة، عجزت إسرائيل عن كبحها رغم محاولات متكررة للضغط على إدارات المنصات لإزالة محتوى أو حجب حسابات. ومن هنا يأتي تصريح نتنياهو، كاعتراف غير مباشر بأن إسرائيل تخسر معركة الرأي العام على السوشال ميديا، وأن الحل بالنسبة له قد يكون في كسب المنصة ذاتها بدلاً من الاكتفاء بالجدل حول ما يُنشر عليها.

معركة على الرواية

هذا التوجّه يكشف في جوهره عن معركة أعمق: معركة على الحقيقة. فإذا نجحت دولة ما في شراء أو التحكم في المنصات الكبرى، فإنها لا تشتري تقنيةً أو شركةً تجارية فحسب، بل تشتري إمكانية فرض رواية واحدة وإقصاء كل ما يخالفها. وهو ما يعني أن حرب غزة لم تعد تُخاض فقط في الشوارع والأنفاق والملاجئ، بل أيضاً في الخوارزميات وصفحات التوصية وشاشات الهواتف.

ولا تكمن خطورة نية إسرائيل شراء "تيك توك" فقط في ملكية المنصة، بل في التحكم العميق بالخوارزميات، ذلك أن "تيك توك" ليست مجرد منصة لعرض الفيديوهات القصيرة، بل هي واحدة من أقوى المنصات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي وتخصيص المحتوى. 

توجيه انتقائي

ومن الواضح أن خوارزميات المنصة، قادرة على توجيه ما يراه المستخدم خلال ثوانٍ معدودة، ما يعني أن أي سلطة مالكة لها يمكنها أن تحدد الرواية المسيطرة وتخفي ما لا يخدم مصالحها. تخيّل مثلاً أن فيديو يوثق قصفاً على غزة قد يصل عادة إلى ملايين المشاهدات، لكن في حال تدخلت الخوارزمية، يمكن ببساطة دفنه في الظل بحيث لا يراه أحد. 

ولا يقتصر الأمر على حذف المحتوى، بل يمتد إلى تفضيل رواية أخرى. يمكن للمنصة مثلاً أن تدفع تلقائياً بمقاطع تبرّر العمليات العسكرية الإسرائيلية أو تُظهر الجيش الإسرائيلي بصورة بطولية، فيما تُهمّش الشهادات الميدانية والصور الموثقة. وهنا تكمن الخطورة الحقيقية، لأن المستخدم يظن أنه يرى المحتوى الأكثر تداولاً بينما هو في الحقيقة يرى ما تفرضه خوارزمية مسيّسة. 

ويحذر خبراء من أنه إذا امتد الأمر إلى منصات أخرى مثل X أو "إنستغرام"، فسيكون العالم أمام مشهد إعلامي مُحتكَر بالكامل. عندها ستصبح الحقيقة الرقمية نسخة مصطنعة من الواقع، وهذا ينسف أي إمكانية لمحاسبة إسرائيل على ما ترتكبه من انتهاكات، ويضع حرية التعبير في المنطقة على المحك. 

انعكاسها على لبنان

بالنسبة للبنان والمنطقة، ما يقوله نتنياهو يرفع مستوى القلق من المرحلة المقبلة. فإسرائيل لا تسعى إلى تبرير حربها فقط، بل إلى إعادة صياغة مفهوم الحقيقة نفسها، بحيث تصبح أصوات الضحايا والحقوقيين والصحافيين المستقلين مجرد "ضوضاء" يجري تقليصها أو دفنها تحت سيل من الرسائل الموجّهة. وفي حال تحققت نية إسرائيل بالسيطرة على منصات مثل تيك توك أو  "اكس"، فإن ذلك سيكون خطوة خطيرة نحو إضعاف المجال العام العالمي، وتكريس هيمنة الرواية الواحدة.

الواقع أن تصريحات نتنياهو ليست مجرد إشارة إلى "ذكاء سياسي" في استخدام أدوات العصر، بل إعلان واضح عن توجه لتسييس الفضاء الرقمي وشرعنته كساحة حرب. وبينما يحاول فرض خطاب واحد على العالم، يبقى الرهان على قدرة الصحافة المستقلة والمستخدمين العاديين على حماية التعددية، وصون ما تبقى من مصداقية في مشهد إعلامي بات مهدداً أكثر من أي وقت مضى.