المصدر: المدن
الكاتب: نغم ربيع
الأحد 7 أيلول 2025 12:33:23
يوسف، المزارع من جزّين، يقلب بيده أكواز الصنوبر اليابسة ويقول: "كانت تعمل شوالين، هلّق أنجأ... 30 أو 40 بالميّة من الكوز صار فاضي". ما يرويه ليس حالة فردية، بل صورة عامة تتكرر في معظم المناطق الحرجية التي تنتج الصنوبر في لبنان. فوسام ناصيف من المتن يضيف: "صرنا عالنهاية، إذا منضل هيك، سنة أو سنتين ببطل فيه صنوبر". أما في الجنوب، فيختصر محمد عبيد المأساة: "الصنوبر من سنتين ما حمل أبداً. عم نعاني".
أزمة المزارعين ليست موسمية أو حديثة العهد، بل تراكمت عبر السنوات وهي في تفاقم مستمر. وشهاداتهم تكشف واقعاً يتجاوز خسارة محصول الموسم الحالي، بل إن شجرة الصنوبر باتت مهددة بالحشرات القاتلة. ويقول ناصيف إن عدد أصحاب الكسارات يقل بشكل مطرد عاماً بعد عام بسبب تراجع المحصول، جراء الحشرات القاتلة. وفي حال بقي الوضع على ما هو عليه فلن يعمل صاحب كسّارة واحدة هذه السنة، بل ستصبح آلته نفسها "للكسر".
أما يوسف ابن منطقة جزين فيستهول وقع الخسارة ليس لخسارة رزقه فحسب، بل حتى لخسارة ذكرياته أيضاً، خصوصاً أنه نشأ في ظلال هذه الشجرة المثمرة. وللتذكير، الصنوبر الذي ينهار اليوم هو جزء من الهوية البيئية والاقتصادية للبنان. لم يهبط من السماء، بل حُمل إلى هذه الأرض قبل قرون: مع عودة الأمير فخر الدين من منفاه، جاءت سفن القرن السابع عشر ببذور الصنوبر من توسكانا الإيطالية. نُثرت أولاً في أراضي جزين، وتحديداً في بكاسين، حيث نشأ أكبر حرج للصنوبر المثمر في لبنان، بل هو الأكبر في الشرق الأوسط. لوحة طبيعية صارت علامة فارقة للبنان، ومصدر رزق لعشرات العائلات تحت اسم "الذهب الأبيض".
"بقّ الدخيلة".. الضيف الأميركي
خلف اللوحة الخضراء لأحراش الصنوبر التي تزين جبال لبنان، ثمة مشهد قاتم. غابات الصنوبر لم تعد مجرد منظر طبيعي، بل صارت ساحة مواجهة مع أزمات مركبة: حشرات قاتلة، تشحيل جائر، وإهمال رسمي. وأخطر الحشرات "بقّ الدخيلة"، وهي حشرة مهاجرة من القارة الأميركية، عبرت أوروبا وتركيا قبل أن تصل إلى لبنان في العام 2010. ولكن منذ 2012، بدأ المزارعون يلحظون التراجع في الإنتاج، وصولاً إلى العام 2015 عندما صار البق مرئياً للعين. واليوم، بعد عقد، انحدر الإنتاج إلى نحو 30 في المئة من مستواه الطبيعي.
وزير الزراعة نزار هاني يعترف بجدية الخطر ويقول لـ"المدن": "هذه الحشرة قضت على أحراج صنوبر بأكملها في بعض بلدان أوروبا". ويكشف أن الوزارة أطلقت بروتوكولاً يمتد أربع أو خمس سنوات، يعتمد على المبيدات الكيميائية.
هذا خيار مثير للجدل، لأنه آثار اعتراض النحالين لما له من أثر على خلاياهم. لكن الوزارة تراه "الشرّ الأهون"، كما قال هاني، مؤكداً أنّ هناك تعاوناً مباشراً مع مربي النحل لتقليل الأضرار.
ويوضح هاني: "نحن نجرب بروتوكولاً باستخدام دواء كيميائي خطر، ولا ننكر خطورته على النحل وغيره. لكن الهدف هو القضاء على الحشرة بدل تركها وتعريض الأشجار لخطر أكبر قد يصل إلى خسارتها بالكامل". ثم يضيف أملاً تقنياً: "نسعى إلى تأمين "درون" خاص برشّ الصنوبر، ليعالج كل شجرة بطريقة دقيقة، بدل الرشّ بالمروحيات على مساحات واسعة، وفي شكل مؤذٍ".
إنقاذ الصنوبر
محاولات الإنقاذ بدأت قبل سنوات. أولى عمليات الرش جرت في 2016 و2017، وتلتها محاولات محدودة في العام 2018. لكن مع بداية الأزمة السياسية والمالية في العام 2019، توقفت كل الجهود وما تزال حتى اليوم، فعادت الحشرة لتنتشر بقوة.
الخبير في علم الحشرات الدكتور نبيل نمر يوضح أنّ "بقّ الدخيلة" يهاجم أكثر من 40 نوعاً من الصنوبريات، لكن الصنوبر المثمر هو الأكثر تضرراً لأنه الأغنى بالغذاء. ويشرح "للمدن" أن الرش لا يقضي نهائياً على الحشرة بل يخفّض أعدادها. ولضمان الفاعلية، يجب أن تتم العملية على ثلاث مراحل لإصابة الأجيال الثلاثة للحشرة. "فإذا نجح البروتوكول، قد نرفع نسبة الأكواز الصالحة من 5 و15 في المئة حالياً إلى نحو 60 في المئة"، يقول نمر.
لكن الواقع اليوم، لا يزال كارثياً. الإنتاج انخفض بنسبة 80 في المئة، وسعر الكيلوغرام الواحد من الصنوبر الأبيض وصل إلى ما بين 65 و70 دولاراً بالجملة، ويفوق 90 دولاراً في الأسواق. كثير من الأحراج تحوّل إلى مجرد أشجار للزينة، بلا مردود. وخلف هذه الأرقام، عشرات العائلات التي كانت تعيش من موسم الصنوبر وجدت نفسها اليوم بلا مورد، تكافح للبقاء وسط أزمة اقتصادية خانقة.
أحراج بكاسين، التي كانت أيقونة في الكتب وصور البطاقات السياحية، باتت الآن عنواناً للهشاشة. هشاشة بيئة مهددة، واقتصاد فلاحي ينهار، ودولة لم تجد بعد التوازن بين حماية الطبيعة وحماية المزارعين. وبين يوسف ووسام ومحمد، تتردد جملة واحدة: "إذا ضاع الصنوبر، شو بيبقى؟".