ضرب العودة الديموغرافية المسيحيّة... بمباركة باسيليّة

تطرح التطوّرات الأمنيّة نفسها كحدث أوّل يسرق الاهتمامات. وإذا كان هذا الموضوع مرتبطًا بما تخطّط له إسرائيل وإيران، إلّا أن هناك ملفات تشغل الساحة اللبنانية وأبرزها قانون الانتخاب وما يُحاك من قبل "الثنائي الشيعي" لقلب النتائج والتي أفشلت جزءًا منها القوى السياديّة والتغييرية أمس بتطيير النصاب.

لا يمكن فصل ملف الانتخابات عن التطوّرات الأمنية والسياسية. فالانتخاب هو عملية تُظهّر شكل الحكم الجديد والتوازنات السياسية في البلاد. قبض "حزب اللّه" على السلطة منذ عام 2006، ليس فقط بقوّة السلاح والترهيب، بل من خلال المؤسّسات وفرض أعراف جديدة مثل الثلث المعطّل والميثاقية وحق النقض الذي ضرب الميثاقية.

ويتخوّف "حزب اللّه" من أن تمثل انتخابات 2026 ضربة قاضية لنفوذه في الحكم بعدما تقهقرت ماكينته العسكرية وانهزم أمام إسرائيل، ولم يعد قادرًا على الردّ مهما ارتفع سقف خطاباته وتهديداته.

ولا يقف "حزب اللّه" وحيدًا في المعركة، بل يسانده رئيس مجلس النواب نبيه برّي الذي يتصرّف وكأن البرلمان ملكه، وأيضًا رئيس "التيار الوطني الحرّ" النائب جبران باسيل الذي يعمل للحفاظ على وضعيّته الشعبية والانتخابية بعد النكسات التي تلقاها والتي أسفرت عن خروجه من جنة الحكم، لذلك، من غير المستبعد تحالفه في الانتخابات المقبلة مع "حزب اللّه" وبرّي مهما بلغ سقف التصريحات والنفي، فالمصلحة السياسية والانتخابية هي التي تتحكّم بسياسة باسيل و"الحزب".

ومثل تطيير النصاب في جلسة مجلس النوّاب أمس ضربة كبيرة لبرّي والحلفاء. صحيح أنه لم يستطع تأمين النصاب لكن "التيار الوطني الحرّ" كان أوّل الحاضرين ويعمل ضد إرادة المغتربين وحتى ضد المصلحة المسيحية العامة في هذا المجال.

عمل الاحتلال السوري بعد عام 1990 على وضع يده على البلد، وأوّل ما فعله السيطرة على مجلس النوّاب الذي يُعتبر المؤسّسة التي ينبثق منها كلّ فروع السلطة. انتخاب مجلس موالٍ له يعني تحكّمه بشكل الحكومة ومن ثمّ التأثير على انتخابات رئيس الجمهورية رغم أن العامل الخارجيّ يلعب دوره في هذه الانتخابات. فكانت المقاطعة المسيحية في انتخابات 1992 والتي جعلت نظام الأسد وحلفاءه يضعون يدهم على تركيبة البلد.

واستمرّ مسلسل ضرب الوجود المسيحي، وحصلت انتخابات 1996، بعد مشاركة بعض المسيحيين في الانتخابات، لكن السوري فرض قانون المحافظة مع بعض الاستثناءات لضرب أيّ تأثير مسيحي. وحصل كلّ ذلك وسط الإحباط المسيحي وضرب قياداتهم السياسية ومؤسّساتهم وحصول موجة هجرة وتجنيس أدّت إلى خلل في الميزان الديموغرافي.

وكانت بدعة قانون غازي كنعان عام 2000 من أهمّ إنجازات النظام الأمني اللبناني- السوري، وأدّت إلى تذويب الصوت المسيحيّ، وكان زلزال 14 شباط كفيلًا بإخراج جيش الاحتلال السوري من لبنان، وجرت انتخابات 2005 على أساس قانون غازي كنعان، من ثمّ انتخب الشعب اللبناني عام 2009 على أساس قانون القضاء الذي لم يؤمّن المناصفة، بل ظهرت ثغرات كثيرة فيه نتيجة الخلل الديموغرافي بعدما تراجع عدد الناخبين المسيحيين إلى حوالى 38 بالمئة.

لا شكّ أن مثل هكذا خلل حصل نتيجة عوامل عدّة، لكن قانون النسبية على أساس 15 دائرة صحح المسار وسمح للمغترب بالمشاركة، وفي إحصاءات إنتخابات 2022، بلغ عدد المسيحيين المسجلين نحو 53 بالمئة من نسبة المغتربين بينما وصل عدد المسلمين المغتربين إلى نحو 47 بالمئة، وتصدّرت الطائفة المارونية النسبة الأعلى بنحو 33 بالمئة وتلتها الطائفة السنية بنحو 20 في المئة، والشيعية 19 بالمئة، والأرثوذكس 10 في المئة.

وبعد التطورات التي حصلت، كان يرجّح ارتفاع عدد المغتربيين الذين سينتخبون، وذلك بعد الأحداث التي حصلت، وعودة جزء من الثقة والأمل بالبلد، وبالتالي كان الميزان الديموغرافي مرشح للتعافي، على رغم أن هذا الأمر يحتاج إلى وقت طويل.

ويشكّل حرمان المغترب من التصويت في مكان إقامته وفي دائرته، ضربة للجناح المغترب أولًا، ولمحاولة الحفاظ على مشاركة المغتربين في الحياة السياسية ثانيًا، وضربة أيضًا لمحاولة المكوّن المسيحي التعافي ديموغرافيًا.

وإذا كان "الثنائي الشيعي" ينفذ مصلحته، فما مصلحة "التيار الوطني الحرّ" في ضرب التمثيل المسيحي والاغترابي وهو الذي رفع دائمًا شعار استعادة حقوق المسيحيين؟ من هنا يمكن القول إن هذه العملية تحصل بمشاركة أيادٍ مسيحية تنجرّ وراء "حزب الله" وبرّي في لعبتهما ووراء مصالحها الانتخابية، ولا تعمل وفق ما تمليه عليها المصلحة المسيحية والوطنية التي تطمح لبناء دولة للجميع تنهي زمن "الدويلة".