منذ أكثر من عام عادت قضية إحراق الإطارات المطاطية لاستخراج النحاس في البؤر غير الشرعية في المنطقة المعروفة بـ"السقي" في طرابلس إلى الواجهة، ما استدعى حالة استنكار ودفع بأبناء المدينة إلى رفع الصوت عالياً في وجه رئيس بلدية طرابلس رياض يمق ووزير الداخلية بسام مولوي، ناهيك عن تحركات وزير البيئة ناصر ياسين الذي وبحسب معلومات "النهار" بات يزور المدينة بشكل متكرر لمتابعة هذه القضية.
يقول مصطفى الأخرس في حديثه لـ"النهار" وهو من سكان المنطقة المتاخمة للسقي: "أنا مريض بالربو ووالدي أيضاً وتتدهور حالتنا الصحية مع اشتداد الرطوبة في الصيف فيأتي إحراق الإطارات ليزيد الطين بلّة لذلك اضطررت مع والدي إلى تعليق رذاذ الأوكسجين أكثر من مرة. كنا سابقاً نغلق النوافذ ونشغل المكيفات ولكن مع تفاقم الأزمة صرنا نضطر إلى إغلاق كل شيء وتفضيل الحر على استنشاق السرطان".
وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين زار طرابلس في شهر تموز الماضي والتقى المدعي العام الاستئنافي في الشمال زياد المصري الشعراني وقائد منطقة الشمال في قوى الأمن الداخلي مصطفى بدران والمرجعيات الدينية، ورئيس بلدية طرابلس رياض يمق. وبحسب مصادر قريبة من البلدية، فوجئ ياسين بتهرب يمق من مسؤولية البلدية في هذا الملف إذ تذرع الأخير بنقص عدد رجال الشرطة، معتبراً أن هذه القضية تقع أيضاً على عاتق محافظ الشمال رمزي نهرا ووزير الداخلية والبلديات بسام مولوي.
ووفقاً للمعلومات فإن ياسين طالب القضاء والأجهزة الأمنية بتشديد متابعتها للموضوع، اضافة لتوقيف المسؤولين باعتبار أن ما يحصل يعتبر ضمن الممارسات التي يعاقب عليها القانون بتعريض السكان لخطر التلوث والإصابة بأمراض قاتلة ومميتة، مؤكداً وجود قرار حكومي واضح بملاحقة أي شخص وعدم تغطيته سياسياً.
وبحسب المعلومات، فإن القوى الأمنية أوقفت في تموز الماضي أكثر من 14 متهماً ومتورطاً في إحراق الإطارات المشتعلة، وتمت إحالتهم إلى القضاء، ولكن سرعان ما تم الإفراج عنهم بضغط من أطراف سياسية وأمنية في المدينة تحت حجة عدم وجود مادة قانونية تجرم حرق الإطارات. وتشير المصادر إلى أن الاندفاع السياسي لإطلاق سراح هؤلاء يأتي بسبب كونهم مفاتيح انتخابية إذ باتت المرجعيات السياسية في طرابلس تسمح لهؤلاء بممارسة مهن غير شرعية بدلاً من دفع "الخرجيات" لهم غير آبهين لكل المخاطر والأضرار الصحية والإنسانية التي قد تطال المدينة وأبنائها.
وأبدت مراجع سياسية في طرابلس استغرابها من "البرودة" التي تبديها وزارة الداخلية في مواكبة الملف، على اعتبار أن وزارة البيئة لا تمتلك قوة أمنية تضبط هذه المخالفات، ومتابعة الملف منوط بالجهة التي تمتلك "ضابطة عدلية" أي الداخلية، والمستغرب وجود منزل وزير الداخلية بسام مولوي على مقربة من المناطق والبؤر التي تجري فيها عمليات الحرق اليومية.
يمق رد على ما يُشاع حول مسؤولية البلدية، وقال لـ"النهار": "لا يمكن لأي أمر أن يدفعنا إلى تأمين غطاء لأشخاص يؤذون المدينة وأهلها خصوصاً في المناطق الشعبية، لكن الموضوع يكمن في صعوبة كشف هذه المافيات. وأؤكد أن هذه الممارسات لا تحصل بغطاء منا أو بغطاء أمني وليس بالضرورة أن يكون أصحاب البؤر هم من يشعلون النيران إذ قد يكون وراء هذه الأفعال جهات لها غاية معينة. من هنا، نشدد المراقبة قدر الإمكان بالتعاون مع الأهالي مقابل أتعاب مادية لكن الحل يكمن في إنشاء معامل خاصة لتدوير هذه المواد بطريقة صحية".
ظاهرة الإحراق هذه دفعت بناشطي المدينة للتحرك ومحاولة رصد وكشف وفضح الفاعلين قدر الإمكان، إذ يقول الناشط الاجتماعي ورئيس حركة حراس المدينة أبو محمود شوك للنهار: "نرصد يومياً عمليات الحرق في البؤر غير الشرعية وأغلب هذه العمليات تحدث في الليل لأن الدخان لا يظهر في المساء ونادرا ما تتحرك وتتفاعل الأجهزة الأمنية ليلاً. كنا سابقاً نتواصل مع شركة البلدية عند رصد أي حركة مشبوهة وكانوا يلبون النظام ولكن مع تفاقم الأزمة الاقتصادية باتت شرطة البلدية عاجزة عن تلبية النداء فحاولنا مناشدة محافظ الشمال لكن لم نلق آذاناً صاغية فاتجهنا نحو مناشدة القوى الأمنية التي ترد على مناشداتنا ولكن للأسف لم يتم إقفال اي من هذه البؤر ".
وتابع شوك: "لم نتواصل بشكل مباشر مع نواب المدينة في هذا الملف لأنهم على علم به ولا داعي لإخبارهم لأنه يفترض بهم أن يعلموا بذلك دون أن يخبرهم أحد على اعتبار انهم من سكان المدينة لكننا نستغرب سكوتهم أمام هذه الجريمة وعدم إقدام أي أحد منهم على التحرك لإيقاف هذه العصابات ".
الخبير في التلوث الجرثومي الدكتور منذر حمزة شرح لـ"النهار" مخاطر حرق الإطارات قائلاً: "إن الإطارات مصنوعة من مطاط مصنع يحتوي على مركبات بنزينية معروفة بتأثيراتها المسرطنة وعند الحرق ينتج عن ذلك مركّبات مختلفة مع مركبات هيدروكربونية حلقية متعددة الحلقات وغازات سامة من ضمنها أول أوكسيد الكربون وأوكسيد النيتروجين والكبريت. إن حرق إطار واحد تنتج عنه ملوثات تعادل أضعاف ما ينبعث من مداخن المصانع ويتعدى المقاييس والمعايير المحلية والدولية لجودة الهواء، وبالتالي، فإن المدينة تتنفس الموت بسبب تلوث هوائها بشكل خطير نتيجة عمليات الحرق هذه ناهيك عن حرق النفايات على مداخلها من دون أن ننسى المولدات المنتشرة في أرجائها".
اليوم، لا يزال أصحاب هذه البؤر يمارسون عملهم بشكل يومي متحصنين بمرجعيات سياسية ترشح زيتاً على المنابر عند الحديث عن حب المدينة وأهلها، فيما يستمرون بتغطية التجاوزات والممارسات الخارجة على القانون لأهداف انتخابية.