طلاب الجامعات الخاصة و"اللّبنانيّة": اختناق التّعليم وتضخّم البطالة

إن قمت بداعي التّسليّة أو حتّى الفضول بطباعة السّؤال التّالي على أي محرّك بحث: "ما هي الاختصاصات الأكثر طلبًا في لبنان؟"، فإنك غالبًا ستقابل عشرات (إن لم يكن الآلاف) من المواقع والمنصات، التّي ستغرقك بدورها بلوائح تفصيليّة مختلفة عن بعضها البعض (عادةً ما تكون عشريّة أي "Top 10") لأكثر المهن والاختصاصات الجامعيّة، المرغوبة في سوق العمل اللّبنانيّ المُعقد.

وإن كان لديك وقتٌ كافٍ لمقارنة هذه الإحصاءات (المشكوك عادةً بدّقتها وعملانيتها) مع أعداد الخريجين- العاطلين عن العمل، وبأسباب بطالتهم وهامش تمكنهم من الولوج إلى عالم المهن والخدمات مدفوعة الثمن، فإنك غالبًا ستخرج مُثقلاً بكم التناقضات بين الواقع والمرغوب. أما إذ كنت طالبًا على وشكّ التّخرج، فإن التّفكير وحده بسوق العمل الذي تقف على أعتابه كفيل بتكدير عيشك ودفعك إلى هوةٍ من الإحباط والتوجس.

معدلات البطالة بين الشباب
ففي تقريرٍ أعده برنامج الشباب والمراهقين، في منظمة اليونيسيف منذ نحو عام، أشارت المنظمة للارتفاع المُزمن في معدلات البطالة بين الشباب اللّبناني، الذي تتراوح أعمارهم بين 15- 24 عامًا. وبلغت حتّى أواخر النصف الثاني من عام 2022، نسبة 48 بالمئة، متفوقةً على المُعدل المُقدر عام 2019، والذي بلغ تقريبًا 23 بالمئة، بنحو الضعف، كما وعلى مُعدل البطالة بين البالغين (25.6 بالمئة). فيما أشارت التّقديرات إلى أن 50 ألف شاب لبنانيّ تقريبًا، يدخلون سنويًا إلى سوق العمل، يعجز شطرٌ واسع منهم عن العثور على فرصة عمل في المؤسسات المحليّة.

وعزت المنظمة الأرقام المرتفعة هذه إلى الأسباب المعروفة في الأوساط اللّبنانيّة، كالانهيار الاقتصاديّ والماليّ وتفاقم الحرمان بين المراهقين والشباب، فضلاً عن الأزمات الأخرى المتضافرة لتعزيز مشاعر اللامبالاة لدى الشباب اللّبنانيّ (حوالى 1.7 مليون نسمة) وزيادة سعيهم إلى الهجرة، في ظلّ فقدان الأمل بإمكانية تحسن الأمور في المستقبل القريب. فلا يمكن إهمال الأسباب الجذريّة والبنيويّة التّي تقف وراء كل تلك الأرقام القياسيّة، وفي مقدمتها التدهور المنفلت في مستوى التّعليم الثانويّ وما يلحقه من الجامعيّ والأكاديميّ، الرسميّ والخاص على حدٍّ سواء.  

أسباب ارتفاع البطالة
تاريخيًّا، مهدت الثقافة الشعبيّة السّائدة الطريق أمام تعقيدات سوق العمل اللّبنانيّ الحاليّة، فناهيك بالطموح العموميّ بتسلق السّلم الاجتماعي، عبر حيازة شهادات يترتب عنها وجاهة اجتماعيّة كالطبّ والهندسة والمحاماة (على الصعيدين المحليّ والعالميّ)، فإن أعداد الخريجين الأكاديميين (من الرسميّ والخاص) بات مرتفعًا إلى درجة ازدحام سوق العمل بالكفاءات الأكاديميّة حدّ الاختناق، وسط أجواء تنافسيّة شبه تعجيزيّة، وتنافر بين المطلوب مهنيًّا، والمهارات التعلميّة. فيما بدأت التعقيدات تتجلى ما قبل الأزمة بسنوات وتحديدًا في الفترة الممتدة بين عامي 2009 و2012، وهذا ما نبهت له منظمة العمل الدوليّة في دراسة شاملة صدرت لها سابقًا.

إلا أن المنعطف الذي سلكه التعليم العاليّ (وما يسبقه من الثانويّ)، في بدايات الأزمة وما تبعها من إجراءات في إدارة الجامعات الخاصة، التّي رفعت رسومها ودولرتها تماشيًّا مع الدولرة العامة (بعضها بات يستوفي أقساطاً خياليّة)، قد تسبب بموجة نزوح طلابي من هذه الجامعات نحو التعليم الرسميّ، المتهالك والقاصر عن فتح أبوابه لاستيعاب المزيد من الطلاب. فسرعان ما شهد بدوره موجة تسرب جامعيّ لطلابه، فيما يُشير مراقبون لـ"المدن" أن هذه الموجة قد تتجدد إبان العام الأكاديمي المقبل 2023 – 2024، بعد رفع الجامعة اللّبنانيّة رسومها الجامعيّة، الأمر الذي ألقى على كاهل الطلاب أعباءً مضاعفة.

أما مع إقفال المزيد من المؤسسات التّي تستقطب حاملي الشهادات وتوقف التوظيف في القطاع العام والسّياسات الاستنسابية في قبول الموظفين، التّي يعتمدها غالبية أرباب العمل، ناهيك بالتنافس الوظيفيّ الذي يفرض نفسه، لم يعد متاحًا لغالبية هؤلاء الطلاب في طور التخرج والخريجين سوى العمل في القطاع السّياحيّ والخدماتي، أو البحث عن فرص عمل متواضعة في دول الخارج وأوروبا (في أفضل الأحوال)، نظرًا لانعدام حافز البقاء في بلدٍ بلا أفق.

هذا طبعًا من دون التّعريج على واقع غياب نظام إحصائي دقيق لتوفير بيانات متسقة ودقيقة عن سوق العمل، ما يحول دون وضع سياسات فعالة في الإرشاد والتوجيه التربويّ والتعليميّ، ما يمنع أي إجراء يُطابق بين العرض والطلب في هذا السّوق (تطابق المهارات مع الطلب المهنيّ) وما يرتبط به من اعتبارات كالتطور التكنولوجيّ والتغيير الديمغرافيّ، والتّحديث المستمر للمناهج الدراسيّة حول العالم.

أزمة التّعليم العاليّ
وبمعزلٍ عن كل ما ذُكر آنفًا، فإن أزمة التّعليم لا تتلخص بارتباطها حصرًا بمعضلة البطالة العامة، بل إن التّعليم العاليّ في لبنان وخصوصًا الرسميّ منه، يشهد انحدارًا مزمنًا، ولسنا نذيع سرًّا إذا ما أشرنا لكون الجامعة اللّبنانيّة بكادرها التعليميّ والتّوظيفيّ والبشريّ (الطلاب والأكاديميين)، في وضعٍ مأزوم أكان على الصعيدين التعليميّ والمعيشيّ. مما أسهم تدريجيًا في دفع شطر لا يُستهان به من الطلاب، للجوء إلى أساليب قد تُعد "ملتويّة" لخوض غمار سوق العمل. فإلى جانب الإهمال الدراسيّ الناجم عن حفلة الفوضى الدائمة في الجامعة تحول الطلاب إلى عمال، والذي جعل بعض الطلاب يضطرون لإعادة سنواتهم الدراسيّة بسبب الرسوب المستمر، يلجأ رهط آخر للتعلم افتراضيًّا، أي في جامعات افتراضيّة أو دورات تدريبيّة مجانيّة، توفر عليهم عناء استكمال دراستهم من دون جدوى ملموسة.

وهذا الأمر ينطبق على أولئك في الاختصاصات التّي تتطلب سنوات دراسيّة تتعدى الثلاث سنوات للتخرج كالهندسة والطب، إذ أشار عددٌ من الطلاب في كلية الهندسة في الجامعة اللبنانيّة إلى "المدن" أن بعضهم "فتح" سنته التاسعة، وذلك نتيجة الرسوب المستمر منذ بداية الأزمة، واضطرارهم للعمل بدوامات كاملة أو جزئيّة، لتسديد الفاتورة المعيشيّة المرتفعة، فيما اعتبر بعضهم أن الرسوم التّي ارتفعت مؤخرًا قد تُشكل عائقًا جديدًا، فهم يعمدون لنسخ الكتب الدراسيّة بسبب أسعارها المرتفعة، وأحيانًا التغيب عن الحصص الدراسيّة لتوفير بدلات النقل، لتأتي الإضافات في الرسوم وتضعهم في موقف حرج.

هذا فيما حدّد القرار الجديد رسوم التّسجيل في مرحلة الإجازة الجامعيّة بـ13.5 مليون ليرة لبنانية (نحو 150 دولاراً أميركياً حسب سعر صرف السوق الموازية) للطلاب اللبنانيين و60 مليون ليرة (نحو 670 دولاراً) للأجانب، فيما بلغت رسوم مرحلة الماجستير 18 مليون ليرة (نحو 200 دولار). أمّا رسوم التسجيل في مرحلة الدكتوراه فحُدّدت بـ22 مليون ليرة (نحو 245 دولاراً) للبنانيين و600 مليون ليرة (نحو 6.700 دولار) للأجانب. والرسوم الجديدة أثبتت (من خلال حالة الغضب الطلابيّة "راجع المدن") أنها لا تتناسب مع أوضاع شريحة كبيرة من العائلات في لبنان، ما عدّه الطلاب خنقاً للمتنفس الأخير للطلاب اللبنانيين والفلسطينيين والسّوريين الذين كانوا يعوّلون على الجامعة اللبنانية، بوصفها آخر ما تبقى من التعليم شبه المجانيّ في لبنان والمعروفة بجودة تعليمها وموثوقية شهادتها ورسوم تسجيلها المتواضعة، مقارنة بكلفة التعليم في الجامعات الخاصة.

بزمنٍ قياسيّ، أضحى الحديث عن أي أزمةٍ لبنانيّة، عبئًا رمزيًا مقرونًا بنقاشات مُشتتة، ضبابيّة، غير عملانيّة. وبالتّالي، فإن المُطلع على المشهديّة اللّبنانيّة، قد يَصعب عليه الفهم الدقيق لخفايا هذه الأزمات، ما يُضعف حلّ أي أزمة على أساسٍ نظريّ أو لوحدها بمعزلٍ عن سواها.

ولما كانت وطأة الأزمات الحاليّة تتفاوت بين تلك المؤقتة وطويلة الأمد، فمما لا شكّ فيه، أن أزمة التعليم الجامعيّ والأكاديميّ وما يتناسل منها من أزمات وأهمها البطالة والشلّل في العجلة الاقتصاديّة والاختلال المجتمعيّ والتململ الأمنيّ، هي من الأزمات التّي سيدفع لبنان، عقودًا طويلة، ثمنها.