ظواهر غير صحية تتمدد فهل يشهد لبنان "حركة مطاوعين"؟

 

ماذا يحصل في لبنان؟ من الشمال الى الجنوب، مرورا ببيروت، ظواهر جديدة تظهر الى العلن، كما لو انها تخطت مرحلة الولادة الى النمو... قبل ايام، أُحرِقت شجرة الميلاد في طرابلس، وشُنّت حملة عبر وسائل التواصل الاجتماعي على لاعب الكرة المصري محمد صلاح لانه رفع شجرة مزينة مع عائلته في العيد، ويستعيد العالم الاسلامي كل سنة نغمة وجوب معايدة المسيحي من عدمها، وما اذا كانت حلالا او حراما! فهل هي محاولات قمع أم رفض للآخر المختلف؟

المفارقة ان هذه الظاهرة ليست الاولى، وقد لا تكون الاخيرة، إذ شهد لبنان بعض "الظواهر الغريبة" عنه... من مار مخايل و"جنود الرب"، الى طرابلس و"جنود الفيحاء"، مرورا بمنع المايوه في صيدا... فهل بتنا نعيش "ظاهرة المطاوعين" التي كانت منتشرة في عدد من البلدان العربية، وخفتت أخيرا، وها هي تبرز في لبنان: البلد الذي كان يُصنف الاول عربيا من حيث احترام الحريات العامة؟!

هذا الاستنتاج ليس وليد صدفة او حادثة عابرة، انما هو نتيجة ظواهر تتمدد في اكثر من منطقة، وعند اكثر من طائفة، الامر الذي يجعل السؤال مشروعا: هل تراجع لبنان الى هذا الحد في مسألة الحقوق والحريات الثقافية والاجتماعية؟

آخر تلك الظواهر، احراق شجرة لميلاد في باحة الكنيسة في طرابلس. كل هذه "الحركات الاعتراضية" او "التطرفية" كانت بعيدة عن لبنان، واليوم باتت كأنها نمط سائد.

تعلّق المحامية والحقوقية ديالا شحادة التي تولت الكثير من القضايا القانونية المتصلة بالحريات والتعبير في لبنان، بالقول: "بتنا نخشى من ظاهرة المطاوعين الجدد التي بدأت تظهر في لبنان". وتؤكد لـ"النهار": "هذه الظاهرة هي نتيجة حتمية لسكوت السلطات القضائية عن تجاوزات الزعماء في ما يتعلق بالتعرض للحريات العامة. واذا استمر هذا النمط، الذي نرى انه يولد وينمو عبر اشكال جديدة من مجموعات مدنية تمارس اعمال تشبيح تحت مسمى الاخلاق العامة، في اكثر من طائفة ومنطقة، فاذا اكملت هذه الاعمال واستمر، في المقابل، سكوت السلطات القضائية والقانونية والامنية والتنفيذية عنها، فلا شك انه في هذه الحالة يصبح الاعتقاد اكبر بأن لهذه السلطات يدا مباشرة او غير مباشرة، بتزكية هذه الظاهرة الجديدة، بسبب تعاونها بالتعرض للناس من اصحاب الرأي الحر والمنتقدين الحادّين لأداء هذه السلطة".

في طرابلس ايضا، برزت قبل مدة مجموعة تطلق على نفسها اسم "جنود الفيحاء"، وقامت بالتعرض لمدارس عليها ألوان قوس قزح.

هذه المجموعة وُلدت ونشطت عبر مواقع التواصل الاجتماعي. هي تنتقد المثليين وتهاجمهم، وإنْ كانت تحمل احيانا بعض المطالب السياسية مثل "محاربة الفساد والسلطة".

والى بيروت، حيث تبرز حركة "جنود الرب" التي قامت بمهاجمة ملهى ليلي في شارع مار مخايل، حيث اعتدى افرادها بالضرب على المتواجدين في الملهى، قبل ان تتدخل القوى الامنية.

عام 2019، انطلقت هذه الحركة ووصل "نشاطها" الى حد مطالبتها بمنع "مشروع ليلى" من عرض حفله الموسيقي ضمن مهرجانات جبيل الدولية. ونجحت...الى جانب بعض المعترضين السياسيين والدينيين، من تيارات ومراكز، فتراجع القيّمون على المهرجانات عن فكرة العرض!

وفي كانون الاول 2022، وقع خلاف في ساحة ساسين -الاشرفية خلال احتفال بفوز منتخب المغرب، فانتشرت صور لاعضاء "جنود الرب" يحملون سيوفا وصلبانا ويسيرون في الاشرفية على وقع تراتيل دينية.

وفيما يبدو ان لهؤلاء هدفا واضحا في ابراز انفسهم تحت ثوب طائفي – مناطقي معيّن، واعطاء وجودهم أبعادا طائفية – سياسية، إلا ان ابرز مواجهاتهم أو "معاركهم" كانت في قضية المثليين.

اما في صيدا، فقد عاد موضوع منع ارتداء المايوه على البحر الى الواجهة، عبر القرار الذي صدر بالامس والقاضي بفصل الناشطة ميساء يعفوري من الهيئة الادارية الجديدة للجنة الوطنية لمهرجانات صيدا الدولية، خلافا لارادتها ورغبتها في متابعة عملها، وكأن في هذا الاقصاء "عقابا" لميساء التي رفعت الصوت عاليا بعد مهاجمتها وطردها من شاطىء مسبح بلدية صيدا الشعبي للعموم، فقط لانها ترتدي المايوه!

كل هذه الامثلة التي باتت واقعا تدل على ان افرادا وجماعات يحاكمون مجتمعا برمته، فأين الدولة او السلطات الرسمية المعنية التي يفترض ان تكون الراعية للجميع وفق قانون مدني عام وواضح، ودستور ينص في مقدمته على احترام الحريات؟ وهل تُنسى الحملة التي قادها وزير الثقافة محمد وسام المرتضى على فيلم "باربي" ومطالبته بمنع عرضه، فهل بتنا فعلاً في "ظاهرة المطاوعين"؟

قبل أسابيع، اطلق الامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله معركة ضد مجتمع "ميم عين" معتبرا إياه "حركة تتخطى حزبا او طائفة بل هي معركة كل المجتمع بمسلميه ومسيحييه"، والاخطر انه دعا الى "ضرورة المواجهة بكل الاساليب ومن دون اي سقف"، كما لو انه يشرّع كل الاساليب من قتل ورجم!

تلفت شحادة الى ان "من المعيب على الدولة اللبنانية ان تكون الدولة التي اشتهرت بهذه الظاهرة، وهي السعودية، تمكنت من انهاء هذه الحركات تماما داخل مجتمعها، فيما لبنان يستيقظ اليوم عليها ليعززها، في وقت كان يشتهر بأنه بلد الحريات، والبلد الاول عربيا في احترام حقوق الانسان والحريات العامة. هو الدولة التي شاركت مع ثلاث دول في صوغ الاعلان العالمي لحقوق الانسان قبل اكثر من 70 عاما، تراها الآن تشهد على حركة المطاوعة في هذا الزمن. انه لامر محزن وخطير، ويؤكد الى اي درك ينحدر لبنان على المستوى الحقوقي".

امام هذا الواقع، كيف تكون المواجهة؟

صحيح ان "القيامة قامت" على شجرة العيد، انما التعليقات الرافضة لانتقاده كانت كثيرة ايضا، وبعضها طالب بوضع قوانين. فهل الرد على "محاولات الغائية" كهذه يكون عبر القوانين؟

تجيب شحادة: "الحل عدم سكوت السلطات الرسمية على هكذا محاولات قمع وتطرف، بل محاسبة المعتدين. لا نحتاج الى قوانين، الدستور اللبناني حامي الحريات. هذا هو الرد الحقيقي، اي ان توقف السلطات الرسمية هذه الظاهرة في مهدها. لذلك، نطالب السلطات الرسمية بالقيام بواجبها بمحاسبة المتورطين في اعمال التشبيح والتهجم على المواطنين من هؤلاء المطاوعين الجدد".

القصة باتت اكبر من قضية مثليين والسماح بعرض فيلم، وابعد من ارتداء مايوه او إقامة شجرة ميلاد. هذه الظاهرة ازدادت، وتزداد على مواقع التواصل الاجتماعي، وتصل احيانا، على ارض الواقع، الى حد التهديد والملاحقة.

كل هذه الظواهر تدل اولا على تراجع دور الدولة وسلطاتها، شكلا ومضمونا، ففي الشكل، تقضي حتما على شكل الدولة ككيان، وفي المضمون، تلغي هذه الحركات الاحتكام الى القانون والدستور الذي لا يزال لبنان تحت كنفه وهو الذي يضمن حدا كبيرا من الحريات والحقوق... والخوف، كل الخوف، ان تطبق "اللامركزية" في هذا الاطار، فيصبح الوطن في خبر كان!