المصدر: المدن
الثلاثاء 6 شباط 2024 16:28:20
يرقص "أوموت" ابن الثلاثة عشر عاماً، أو هكذا يبدو، شارحاً بجسده وصوته ووجهه وبلغة تركية رشيقة، ذكرياته عن ليلة الزلزال الذي دمر قريته في مقاطعة غازي عنتاب.
هل ترقص؟ أسأل عبر المترجمة، يجيب: "بيتنا كان يرقص هكذا تلك الليلة، كل القرية راحت وعادت عدة مرات، وصلت إلى حدود الجبل وعادت، وعندما انتهى الرعب، ارتفع عويل من كل الإرجاء، مازالت الأصوات تطن في أذني حتى اليوم".
بعد مرور عام واحد على الزلزال الأعنف الذي ضرب جنوب تركيا، مازالت عائلة الفتى أوموت في قرية بويوك شيهير، وعشرات آلاف العائلات في ولاية غازي عنتاب القريبة من سوريا تضمد جراحها.
خلّف زلزال السادس من شباط/ فبراير 2023 في مدينة غازي عنتاب، مركز المحافظة، أكثر من أربعة آلاف قتيل، ودمر أربعة آلاف مبنى بالكامل، إضافة إلى تضرر ما يقارب 15 الف مبنى سكني بشكل كبير.
الدمار الذي أحال مركز القضاء والقرى الزراعية المتواضعة أكواماً من الركام وغيّر معالم المنطقة، هدم البنية التحتية والطرق والمصانع إضافة إلى المتاحف والمباني التاريخية التي تعج بها المنطقة، ومن بينها قلعة غازي عنتاب التاريخية التي يعود تاريخها للقرن الثاني بعد الميلاد، وتخضع حالياً لإعادة الترميم.
بعد عام فقط، يستغرب الزائر للمحافظة أن 90 في المئة من آثار الزلزال تقريباً أزيلت بالكامل. فما أن استوعبت المدينة الصدمة حتى سارعت لإزالة كميات هائلة من الردم والمباني الآيلة للانهيار. قال والي المحافظة كمال جيبير: إن محافظته أخذت بنصيحة علم النفس بإزالة آثار الزلزال وإعادة شكل المدينة سريعاً لما كان عليه في السابق، "لأن ذلك يساعد على تخطي الكارثة"، لكن بعض الأصوات المشككة بهذه الرواية تقول إن سرعة رفع الردم سببه إخفاء حقيقة تلاعب المتعهدين بمواد البناء، ما أدى إلى سرعة انهيار المباني وارتفاع عدد الضحايا الذي لامس ال55 الفاً.
ملايين الأطنان من الركام، التي خلفها الزلزال والتي أزيلت بسرعة توزعت بشكل عشوائي، على ما يقول البعض من أبناء المنطقة، في أراض زراعية، ما ينذر بكارثة بيئية بسبب تسرب المواد الكيميائية التي تضاف الى مواد البناء الى التربة والمياه الجوفية.
مدن الحاويات
في مختلف المناطق التي طاولها الزلزال نمت سريعاً مجمعات حاويات السكن المؤقت، ويحصى وجود أكثر من 700 ألف حاوية توزعت على 414 مجمعاً. صفوف لا تنتهي من "الكونتينرات" رصفت جنباً إلى جنب، حاول سكانها جلب بعض عاداتهم، فانتشرت شتلات صغيرة ميزت بين صفوف الشبابيك التي لا تنتهي وعلق غسيل فوق الحبال، لكن الحزن وتجمهر الأطفال والكراسي المتحركة ذات الدواليب تحمل المعوقين ذهاباً واياباً، بقيت ملامح مشتركة بين القرى المعدنية المرصوفة والباردة التي مررنا بها.
ومع فقدان فرص العمل، والخوف المستمر من زلازل جديدة، فضل كثر من السكان، كما أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين، النزوح باتجاه مدن تركية أكثر استقراراً، فيما يستفيد من بقي في المساكن المؤقتة من العلاج النفسي والتدريب المهني والمدارس والحضانات، إضافة للأسواق المستحدثة، ومتاجر تقدم قسائم المؤن للعائلات التي فقدت مصدر رزقها، بانتظار تحقق وعود الحكومة بالسكن اللائق خلال الشهور، وربما السنوات القليلة المقبلة.
النسيج الاجتماعي والتعاضد تبدو في الجنوب التركي كأدوات للتعافي. فإلى جانب ما تلقته المنطقة من دعم المنظمات الإنسانية الدولية، وخطط الإنماء الحديثة، ومساهمة القطاع الخاص المهمة، أكثر ما يلفت الأنظار فعلاً هو قصص التآخي واقتسام الألم -ورغيف الخبز- التي يرويها الناس البسطاء، الذين أحالتهم المصيبة عائلة واحدة، كأن ترعى سيدة لم يتبق من أسرتها سوى حفيد، سيدة أخرى مشلولة باتت وحيدة بعد أن فقدت ستة من عائلاتها.
مدينة عائمة
في محافظة هاتاي، حيث مازالت آثار الزلزال مرئية، وعلى بعد مئات الأمتار من ميناء اسكندرون، تحولت سفينتان تابعتان لشركة "كارادينيز" القابضة، شاركتا في نقل المساعدات إلى كرمان مرعش المنكوبة قبل عام الى مدينة عائمة، تأوي السفينة الأولى "سهيلة سلطان" ألف نازح، مع ما يحتاجونه من مهاجع ومطابخ وحضانة ومستوصف ومخبز، وتحولت الثانية، "رؤوف بيه"، إلى مدرسة داخلية مجانية، تلبي الحاجيات التعليمية والغذائية والاجتماعية والطبية والترفيهية لأكثر من ألفي تلميذ.
يتأمل الواقف أعلى السفينة-المدرسة حركة الشاحنات النشطة باتجاه المرفأ، وسلسلة جبال طوروس المهيبة المكسوة بالثلج، والبحر الشاسع، غير القادر على استيعاب مآسي الناس في هذه البقعة من الأرض.
رائحة الموت هنا مازالت طازجة، لكن التركي الذي تزخر قصصه الشعبية بالتغلب على الصعاب، تمكن في عام فقط من تطويع الكارثة وتحويلها إلى فرصة تاريخية، لتحديث الأرياف وتزويدها بالخدمات، إلى جانب تشديد معايير المنشآت الجديدة لتقاوم زلازل يخشى السكان القابعون فوق فالق شرق الأناضول، الأكثر عرضة للزلازل في الشرق الاوسط، من أنه مصير، وإن تأخر، فلا بد منه.