المصدر: المدن
الكاتب: نغم ربيع
الأربعاء 31 كانون الاول 2025 16:23:51
لا يُمكن قراءة أرقام الوضع الأمني، وتصاعد أو انخفاض مؤشرات الجريمة في لبنان عام 2025 بوصفها مؤشّرًا مباشرًا على تحسّنٍ شامل أو تدهورٍ مطلق. ما جرى خلال هذا العام هو انتقال هادئ لكن عميق في طبيعة الجريمة نفسها. انتقال فرضته تحوّلات سياسية وأمنية كبرى، داخلية وخارجية.
لم تنخفض مؤشرات بعض الجرائم لأن المجتمع بات أقل عنفًا، ولا لأن الدولة استعادت سيطرتها الكاملة، بل لأن الشروط التي كانت تسمح بحدوثها تعطّلت أو تغيّرت. في المقابل، ارتفعت نسبة جرائم أخرى لأن أسبابها البنيوية لم تُمسّ، بل ازدادت حدّة تحت وطأة الانهيار الاقتصادي والتفكّك الاجتماعي وغياب شبكات الحماية.
2025 أمنيا
عام 2025 لا يُشبه ما قبله أمنيًا، لأن موازين القوى تغيّرت: حدود أُقفلت بعد أن كانت مشرّعة للتهريب، نفوذٌ انكمش حيث كان فائضًا، وأجهزة أمنية استعادت هامشًا من القرار بعد سنوات من الشلل السياسي. في المقابل، بقيت الأرض الاجتماعية هشّة، مثقلة بالفقر واليأس والضغط النفسي، ما جعل بعض الجرائم أقل ربحًا، وأخرى أكثر احتمالًا.
من هنا، تبدو المؤشرات الأمنية أشبه بخريطة تحوّلات، لا بميزان نجاح أو فشل. هي تعكس كيف يتأقلم العنف مع الواقع، وكيف تُعيد الجريمة إنتاج نفسها كلّما عجزت الدولة عن معالجة جذورها، لا مظاهرها فقط.
دافع للأجهزة الأمنية
أبرز هذه التحوّلات برزت في ملف سرقة السيارات، الذي سجّل عام 2025 تراجعًا لافتا قياسا بالسنوات السابقة. فبحسب مصدر أمني، بلغ عدد السيارات المسروقة هذا العام نحو 200 سيارة، مقارنةً بأكثر من 350 سيارة سُجّلت في عام 2024. رقمٌ لا يمكن عزله عن السياق العام، هذا الانخفاض نتاج تعطّل الحلقة الأساسية التي كانت تُغذّي هذا النوع من الجرائم: التهريب عبر الحدود السورية. فمع سقوط النظام في سوريا، وتبدّل السيطرة الميدانية، وتمركز "هيئة تحرير الشام" في مناطق كانت تشكّل معابر أساسية، تضرّرت شبكات التهريب التي لطالما مثّلت الشريان الحيوي لتصريف السيارات المسروقة من لبنان. سرقة السيارات، في هذا المعنى، ليست فعلًا فرديًا معزولًا، بل عملية متكاملة تقوم على سوق سوداء، ومسارات نقل، ونفوذ عابر للحدود. وحين أُقفلت هذه المسارات، فقدت الجريمة وظيفتها وربحيتها، فتراجعت تلقائيًا.
تزامن هذا التحوّل مع تشديدٍ نسبي في ضبط الحدود اللبنانية، ومع ضغط سياسي وأمني متزايد باتجاه تكريس الجيش اللبناني كمرجعية وحيدة على الأرض. كما شكّل انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة عامل دعم إضافيًا للأجهزة الأمنية، لا من حيث القرار التنفيذي فقط، بل على مستوى المعنويات والثقة بالعمل. وإلى ذلك، أتاح تراجع تأثير "الحزب" على عمل هذه الأجهزة هامش حركة أوسع، انعكس دعمًا مباشرًا لكل المؤسسات الأمنية، وأسهم في إعادة ترتيب أولوياتها وقدرتها على التدخّل.
ارتفاع بعض الجرائم
بينما تراجعت سرقة السيارات، ارتفعت جرائم السرقة بمعناها الأوسع، ولا سيما تلك المرتبطة بالحاجة اليومية لا بالشبكات المنظّمة. خلال عام 2025، سُجّل نحو 2700 حالة سرقة، مقارنةً بحوالي 2100 في عام 2024. هنا، لا معابر ولا تهريب ولا أسواق سوداء عابرة للحدود. الدافع اقتصادي صرف: أوضاع معيشية منهارة، فقر يتعمّق في المخيمات والمناطق المهمّشة، وبطالة تدفع الأفراد إلى "جرائم الفرصة"، حيث يصبح الهاتف أو المحفظة أو باب المنزل هدفًا سهلًا.
ويشرح المصدر الأمني أن السرقة "ليست ظاهرة جديدة"، لكنها تتأثر مباشرة بدرجة جهوزية الأجهزة. هذه الجهوزية، وفق توصيفه، تعاني نزيفًا حادًا: نقص في العديد، شحّ في الدوريات، وقدرات تشغيلية محدودة بفعل الأزمات المتراكمة. في ظل هذا الواقع، يغيب الردع الفعلي، وتتحوّل السرقة من مخاطرة محسوبة إلى سلوك يومي، يعرف مرتكبه أن احتمال المحاسبة ضعيف.
الأمر نفسه ينسحب، وإن بشكل أكثر خطورة، على جرائم القتل. فقد ارتفع عدد القتلى من نحو 100 في عام 2024 إلى حوالي 165 في عام 2025. هذا الارتفاع لا يمكن تفسيره بعودة العصابات المنظّمة أو بانتشار نمط جرمي واحد يمكن تطويقه بخطة أمنية شاملة. على العكس، تنتمي معظم جرائم القتل في لبنان، بحسب المصدر الأمني، إلى 3 فئات أساسية: خلافات فردية تتحوّل إلى دم، مشاكل عائلية، وجرائم مرتبطة بالمخدرات والنفوذ.
يقول المصدر: "هذه الجرائم لا يمكن رصدها مسبقًا، لأنها لا تقوم على عصابات منظّمة، بل على تفكّك اجتماعي، وسلاح متفلّت، وقدرة محدودة للدولة على التدخّل قبل لحظة الانفجار". هي جرائم اللحظة، لا المخطّط، ونتاج بيئة اجتماعية مأزومة أكثر مما هي نتاج فشل أمني تقني.
ما تكشفه أرقام 2025، في المحصّلة، ليس تحسّنا أمنياً شاملاً، بل تغيّرا في شروط الجريمة نفسها. حين ضُرب التهريب، تراجعت سرقة السيارات. وحين بقي الفقر بلا حلول، ارتفعت السرقة الفردية. وحين استمر التفكّك الاجتماعي، تصاعد العنف والقتل.
ما حصل هو أن بعض الفوضى أُعيد ترتيبها، لا أكثر. أما الدولة، فما زالت تختبر قدرتها على أن تكون أكثر من مجرّد ظرف يسمح للجريمة بأن تغيّر شكلها، بدل أن تختفي.