"عقارية" زحلة معطّلة منذ أشهر: الحجّة إضرابات... والحقيقة ابتزاز

يتكرر الحديث على ألسنة المتضررين من تعطيل الإدارة الرسمية، عن شكوك تحوم حول الخلفيات الفعلية للشلل المفروض على الإدارة العامة منذ بدء الأزمة اللبنانية. ويبحث البعض عن تعليق هذه الشماعة على أكتاف أطراف سياسية، يعتبرون أنها الأكثر إستفادة من هذا التعطيل، خصوصاً أنّه يبدو كحلقة متواصلة. إذ ما إن «تقلّع» إحدى الدوائر مجدداً، حتى تتعطّل دائرة موازية لها لتبطل مفعول إستعادتها لنشاطها، وهذا ما يجعل البعض مقتنعاً بأنّ التعطيل سياسي قبل أن يكون إدارياً.

تسود هذه الإنطباعات أيضاً من خلال توقف الدوائر العقارية في معظم مناطق لبنان عن إنتاجيتها منذ ما يزيد على السبعة أشهر، بالتزامن مع ملفات الفساد التي فتحت في بعض مراكزها. وقد تعززت لدى البعض يوم أمس، عندما فتحت الأبواب الموصدة في دائرة أمانة السجل العقاري في زحلة والبقاع الغربي لساعات قليلة في يوم واحد فقط، حدده وزير المالية لتسليم سندات التمليك وأوامر القبص لأصحاب المعاملات المنجزة سابقاً حصراً، من دون أن تحل عقدة حجب الإفادات العقارية، والتي يطالب بها المهندسون والمحامون خصوصاً، لما يتركه فقدانها من تداعيات على إنجاز كافة قضاياهم ومشاريعهم.

غير أن قرار وزير المالية الإستثنائي هذا، يعني أنّ موظفي هذه الدائرة سينسحبون مجدداً إلى خلف الأبواب الحديدية الموصدة لأماكن عملهم، تماماً كما هي الحال منذ أكثر من شهرين، حيث يقتصر حضور الموظفين على من هم مستعدون لتأمين ساعات العمل المطلوبة منهم، لإنجاز المعاملات المتكدسة منذ أكثر من عام، نتيجة لظروف مختلفة. فيما أبدى جزء كبير من الموظفين المقيمين في مناطق بعيدة عن مركز المحافظة الذي يحضن الدوائر الرسمية في زحلة، عدم استعدادهم لهدر طاقاتهم ورواتبهم من دون مقابل.

وبحسب مصدر مسؤول في عقارية البقاع، فإنّ الدائرة لم تنجز حتى الآن جميع المعاملات المكدّسة لديها، ولذلك فإنّ موظفيها يحتاجون لمزيد من الوقت قبل استقبال طلبات جديدة. هذا مع العلم أنّ الإعلان عن المعاملات المنجزة تمّ عبر موقع أمانة السجل الإلكتروني، وجرت دعوتهم لتسلمها.

قبل تهاوي الرؤوس

إلا أنّ قصّة هذا التعطيل في الدوائر العقارية يعود إلى ما قبل تهاوي الرؤوس في أمانات السجل العقاري بمناطق الزلقا، بعبدا وعاليه، نتيجة لما شهدته من عمليات توقيف واسعة في صفوف الموظفين، كباراً وصغاراً وسماسرة. فملف الفساد الذي فتح حول الدوائر العقارية بالتزامن مع فتح ملف «النافعة» نهاية العام الماضي، ورّط على ما ظهر عشرات الموظفين بتهم الإثراء غير المشروع، وتقاضي الرشاوى وتزوير المعاملات، بالإضافة الى ابتزاز المواطنين في معاملاتهم، وفرض مبالغ خيالية لقاء تسجيل العقارات. وقد وثّقت هذه التهم من خلال إفادات عديدة لمواطنين، وأيضاً لسماسرة.

شكّلت هذه الشبهات حول موظفي العقارية في مختلف المناطق على ما يبدو سبباً كافياً ليتحصّن موظفو دائرة زحلة خلف أبواب حديدية، لم تفتح منذ أشهر. اذ يعتبر البعض أنّ هؤلاء يتخذون من قرار رابطتهم بالإضراب، مظلة تحميهم من «موسى» المحاسبة التي وصلت إلى ذقون زملائهم في باقي المناطق. إذ يحكى عن حذر كبير أظهره الموظفون منذ حملة التوقيفات، دفعت بالمحترفين منهم إلى اتخاذ كل الاحتياطات، حتى أن بعضهم بات يفكر بتقديم إستقالته من الإدارة. ولما كانت فترة الإضراب المتمددة منذ أشهر قد سبقها توقف عن إنجاز المعاملات قسراً في هذه الدائرة، نتيجة لما شهدته من عدم إستقرار في التغذية الكهربائية سابقاً، بالإضافة الى ما لحق بتجهيزات الدائرة من أعطال، كان قرار الإدارة العامة بحصر العمل في هذه الدائرة منذ أسابيع بإنجاز المعاملات المكدسة، من دون إستقبال أي معاملة جديدة، أو طلب، حتى للحصول على إفادة عقارية. حتى بات توقف الدوائر «العقارية» عن إستقبال معاملات المواطنين كعقاب لهم.

لا إفادات عقارية

في المقابل شكا مهندسون ومحامون من عدم قدرتهم على الإستحصال ولو على إفادة عقارية، وهي الإفادة التي تطلب في مطلق معاملة رسمية أو هندسية، وتعتبر أبسط وثيقة يمكن أن تنجز في هذه الدائرة بدقائق قليلة. الأمر الذي تسبب بحالة من الفوضى، وشل قدرة الناس على متابعة أمورها في سائر الدوائر والبلديات. بالإضافة إلى ما ألحقه هذا التعطيل من خسارة لخزينة الدولة، إذ أنّ تسديد أي مبلغ لوزارة المالية غير متاح من دون الإستحصال على إفادة عقارية أولاً، مثلما هي الحال في الحصول على رخص بلدية وغيرها من المعاملات التي تحقق دخلاً للخزينة.

منذ أكثر من شهرين إذاً يصرّ موظفو دائرة السجل العقاري في زحلة على إنجاز الأعمال المتأخرة خلف الأبواب الموصدة. فيما يشرح مصدر مسؤول في محافظة البقاع بأنّ سبب إستغراق إنجازها هذه الفترة الطويلة، يعود لتكدس كمياتها من جهة، وعدم إسعاف التجهيزات الإلكترونية للموظفين من جهة ثانية، وخصوصاً أنّ الأعطال تتكرر على شبكة النظام الإلكتروني، فيما المعاملات في هذه الدائرة ممكننة كلياً.

هذه أيضاً كانت ذريعة أحد الموظفين الذي التقيناه صدفة على باب المصلحة. كان هذا الأخير يخوض حينها نقاشاً مع عنصر أنثوي من قوى الأمن، حضرت إلى المكان في محاولة لإتمام المعاملات التي تحتاجها لفك رهن منزلها بعد تسديد سعره كاملاً للمصرف. تذرّع الموظف بأنّ الدائرة مقفلة بسبب الإضراب، فسألته: لماذا لا نمتنع أنا زملائي عن العمل، فرواتبنا ليست أفضل حالاً من رواتب موظفي القطاع العام عموماً؟!

نقلنا إلى الموظف أجواء التململ الشامل من قبل المتضررين من إقفال الدائرة، وخصوصاً المهندسين الذين يؤكدون أنّ تداعيات إقفال العقارية أدخلتهم في حالة بطالة منذ أشهر، فأجاب بتساؤل ما إذا كان المتململون مقتنعين بأنه إذا فتحت الدائرة أبوابها سيحصلون على الوثائق التي يحتاجونها؟ فالورق والحبر كما كشف ليسا متوفرين بشكل مستقر في الدائرة، و»السيستم» إذا لم يكن معطلاً كلياً بالكاد تعين سرعته في إنجاز بضع معاملات يومياً، ولكن حتى لو أنجِزت لن تجد في المصلحة طابعة شغالة لطباعتها. بحسب الموظف «لا يقدّر المواطنون حجم الأزمة التي تغرق بها مؤسسات الدولة، فهي مهددة بالإنهيار. ولكنهم يريدون إنجاز معاملاتهم، وهذا حقهم، إنما أيضاً من حق الموظف أيضاً أن يتقاضى الراتب الكافي الذي يحافظ على كرامته، وأن تؤمن له الموارد اللازمة لإنجاز مهماته».

لا آلة طابعة

مع فتح أبواب دائرة أمانة السجل العقاري في زحلة أمس، بدا بعض الموظفين حاضرين لتقديم الشواهد على غياب مواردهم اللازمة للعمل. ليتبين فعلاً أنّ لا آلة طابعة في عقارية البقاع. بل ثلاث آلات PRINTER متوقفة تماماً عن العمل، تكدّست على باب إحدى الغرف التي تحلق حولها المواطنون لإستلام معاملاتهم المنجزة. ولكن ثمة ملاحظة لم يكن ممكناً تجاوزها. إذ أنّ استجابة الموظفين لقرار وزير المالية بحصر مهمة اليوم الواحد الذي حدده لفتح الإدارة أمام المواطنين بتسليم المعاملات المنجزة، من دون السماح باستقبال أي معاملة جديدة، ظهرت لوهلة وكأن قرار التعطيل هو بيد السلطة السياسية التي تخضع لها هذه الدائرة، وليس بيد موظفيها الذين إنقسموا بين ملتزم تماماً بقرار رابطتهم بالإضراب، وبين من اختار تأمين 14 يوم عمل لقاء الحصول على الرواتب الأربعة التي وعدوا بها. ما يثير تساؤلات عما إذا كان حرمان هذه الدائرة أيضاً من مواردها، هو جزء من مخطط تعطيل مرسوم مسبقاً لشتى خدمات هذه الدائرة.

حاولنا إستطلاع الموظفين عما إذا كان توقفهم عن العمل هو قرارهم أم قرار الوزير، فاختلفت الآراء بما يعزز الإنطباعات السابقة حول كون كل موظف في القطاع الرسمي بات «فاتحاً على حسابه».

إلا ان مصدراً مسؤولاً في الدائرة أوضح في المقابل «أنّ قرار التوقف عن العمل هو تعبير إحتجاجي من قبل الموظفين على تدني قيمة رواتبهم. ولكن تجاه إصرار المديرية العامة على ضرورة إنجاز المعاملات القديمة المكدسة، وافق جزء من الموظفين، والذين تسمح لهم إمكانياتهم، على تأمين حضور جزئي لإتمام المعاملات الإدارية فقط». وشرح المصدر «أنّ المعاملات غير المنجزة هي تلك التي تم إستلامها في فترة سابقة، وإنما لم يتم إدخالها الى تجهيزات الكومبيوتر، إمّا بسبب أعطال طرأت على النظام الإلكتروني أو بسبب أعطال كهربائية، وبما أننا دائرة ممكننة، يتعذر علينا إنجاز أي معاملة من خارج النظام الموضوع. ولذلك نحن مضطرون حالياً للإستمرار بإتمام المعاملات السابقة، قبل استلام أي معاملة جديدة».

دائرة الهندسة

إلا أن هذه الإجابة لا تبدد الشكوك تماماً، خصوصاً أنّ الدائرة العقارية ليست وحدها المعطلة حتى الآن في سراي زحلة. فمعها توقف العمل أيضاً في دائرة الهندسة، حيث لا ينجح المهندسون في الإستحصال على خريطة مساحة واحدة منذ أشهر، وهو ما يبقي ملفاتهم غير مؤهلة للإنتقال الى دائرة التنظيم المدني. والدائرة الأخيرة اهتزت قبل أسابيع أيضاً نتيجة لتوقيف رئيسها على ذمة التحقيق في ملف رفعه إلى النيابة العامة محافظ البقاع، قبل أن يفرج عنه ويستأنف حضوره إلى وظيفته، ولكن من دون إستقبال معاملات الناس.

وبحسب المصادر إشترط رئيس الدائرة إكتمال الملفات قبل تلقيها، إلا أنّ أمانة سجلها رفضت تسجيل أي معاملة سواء أكانت مكتملة أم لا. وترابط هذه الأمور يخلف مخاوف عديدة من إتجاه الشؤون العقارية نحو الفوضى إذا ما إستمر هذا التعطيل لفترة أطول.

في المقابل فإنّ جزءاً كبيراً من عمل وزارة المالية يبدو مقترناً بهذه الدوائر، وهي بالتالي تدفع ثمن الشلل الذي فرض في الدوائر العقارية خصوصاً، هذا فضلاً عما تكشفه مصادرها من صعوبات، تجعل من المرحلة الحالية الأسوأ في تاريخ الإدارة اللبنانية. والتفاصيل في تقرير يوم غد.