المصدر: نداء الوطن
الكاتب: ريشار حرفوش
الأربعاء 3 كانون الاول 2025 07:27:42
في صباحٍ لا يُشبه أيّ صباح، ومع أول خيط ضوء من الثاني من كانون الأول، كانت جلّ الديب تستيقظ على نبضٍ غير مألوف. أجراسٌ تقرع بلا انقطاع، حشودٌ تتدفق من المناطق كلّها، قلوبٌ يذيبها الشوق، وصليب الرجاء يرتفع عاليًا من دير الصليب – بقنايا، كأنه يلامس حدود السماء.
منذ الرابعة فجرًا، بدأ الناس يتجمّعون حول الدير، رجالًا ونساء، كبارًا وصغارًا، أتوا من كلّ لبنان ليحجزوا مكانًا لاستقبال الأب الأقدس، البابا لاوون الرابع عشر. مشهدٌ روحيّ نادر امتزج فيه الإيمان بالإصرار، والانتظار بمحبةٍ لا حدود لها.
وحين وصلت سيارة الأب الأقدس إلى الباحة الخارجية، غطّت الورود والأرز الأرض. هتافاتٌ تعلو، دموعٌ تسيل، وصورة لبنان الذي نعرفه ترتسم أخيرًا: بلدٌ يعرف كيف يحتفل بالروح، ولو في أكثر ظروفه قسوة.
"بابا صغير" ينتظر البابا الكبير
من أجمل المشاهد، تلك اللوحة التي رسمها أطفال مدارس الراهبات وقد ارتدوا ثوب الكرادلة، فيما ارتدى أحدهم ثوب البابا نفسه.
وقفوا في صفّ واحد، ببراءةٍ لا تشوبها شائبة، ينتظرون الأب الأقدس. بدا المشهد حوارًا صامتًا بين جيلٍ صغير وكنيسةٍ كبيرة، بين قداسة البابا… وأطفال لبنان.
نشيد المرضى في الاستقبال
في الداخل، وعلى وقع نشيدٍ أدّاه مرضى المستشفى من "جوقة ذخائر أبونا يعقوب" بكلمات الشاعر نزار فرنسيس وألحان المايسترو إيلي العليا، بدا المكان كأنه سماء صغيرة نزلت بين الجدران.
صعدت الرئيسة العامة لجمعية راهبات الصليب، الأم ماري مخلوف، لإلقاء كلمتها، حيث توقفت مرارًا، فالدمعة سبقت الكلمة، والصوت المرتجف قال كلّ ما لا يُقال، كانت تستعيد تاريخ المؤسسة التي أسّسها الطوباوي يعقوب الكبّوشي، الراهب الذي رفع شعارًا صار ميثاق حياة: "يا صليب الرب، يا حبيب القلب".
دموع الراهبات
ومع تقدّم الأب الأقدس إلى مدخل القاعة، حدث المشهد الذي لن يُمحى من ذاكرة كلّ من كان حاضرًا، رأينا الراهبات، اللواتي لطالما أخفين ضعفهن خلف الجهد والصلاة والخدمة، يبكين بصمتٍ مهيب، دموعٌ تنزل على وجوه عادةً لا تعرف إلّا الثبات، دموعٌ لا تشبه الانكسار، بل تشبه الامتلاء.
كانت الراهبات ينظرن إلى البابا كما تنظر البنات إلى أبٍ يعود بعد غياب طويل، كأن كلّ الصلاة التي رفعتها هذه الجماعة طوال سنوات الألم والمرض والبؤس، انفجرت في لحظة واحدة، في دمعة واحدة.
من بيننا، نحن الجالسين في القاعة، شعرنا أن شيئًا ما تغيّر في الهواء، فالدموع كانت أقرب إلى صلاة جماعية خرجت من أعماق القلوب، لا من العيون فقط، فكانت راهبةٌ خلفنا ترتجف وهي تضع يدها على صدرها، وأخرى تمسح دموعها بمنديل صغير، وثالثة تهمس: "يا رب، ما أعظم هذا النهار…".
"Happy Birthday" من المرضى للبابا
عندما توجّه البابا إلى المرضى، كانت كلمته وجدانية عميقة، محمّلة بطمأنينة القديسين، حيث شدّد على قيمة الألم ورسالة الخدمة، وعلى أن المرض لا يُقصي الإنسان بل يقدّسه، وما هز المشهد، أن بعض المرضى الذين يعانون اضطرابات نفسية، ومن شدّة فرحهم العفوي، بدأوا يغنون له "Happy Birthday"، حيث كانت اللحظة مزيجًا من البراءة والبساطة الروحية، ومن حقيقة أن الفرح عندما يفيض لا يحتاج إلى قواعد.
الشال الذي أصبح إرثًا
ومن موقع الصحافيين، التقينا الأب الأقدس. لحظةٌ قريبة دافئة، وضع فيها يده ليباركنا، وحين قدّمنا له الشال الخاص بالمناسبة، وقد طُبعت عليه صورة الطوباوي يعقوب على جهة، وصورته على الجهة الأخرى، باركه بيده وأعطانا إيّاه.
تحوّل الشال فورًا إلى ذكرى مقدّسة، إرثٍ سيظلّ في منزلي حتى آخر العمر.
قد لا تغيّر زيارة واحدة خرائط السياسة، لكنها غيّرت خرائط القلوب، وأعادت إلى لبنان اسمه الأجمل: "وطن الرسالة"، كما كرّر البابا لاوون الرابع عشر قبل مغادرة الأرض اللبنانية.
كان يومًا مجيدًا…، يومًا دخل فيه رأس الكنيسة في العالم إلى إحدى أكثر المؤسسات المسيحية تواضعًا، فأضاء الدرب، ورسم رجاءً جديدًا لن يزول.