المصدر: نداء الوطن
الكاتب: نجم الهاشم
الأربعاء 3 كانون الاول 2025 07:23:57
وفي اليوم الثالث غادر البابا لاوون الرابع عشر لبنان. معه وبعده قد يتحوّل وطن الأرز محطة إلزامية في جداول وبرامج زيارات كل الباباوات الذين سيتولّون بعده سدّة الكرسي البابوية في روما. كأن كنيسة الشرق في لبنان قد تتحوّل إلى كرسي الشرق الرومانية، ومقرًّا بابويًا ثانيًا، ليس بهدف زيادة العدد بل بهدف إعادة تعزيز الحضور المسيحي في الشرق وفي الغرب أيضًا. في الأيام الثلاثة التي أمضاها البابا في لبنان ظهر بوضوح معنى أن تكون مسيحيًا في لبنان وفي الشرق، وأن تكون مسيحيًا أيضًا في روما وفي الغرب.
في 2 كانون الأول 1964 هبطت طائرة البابا بولس السادس في مطار بيروت الدولي حيث كان في استقباله رئيس الجمهورية اللبنانية شارل حلو، مدير عام مراسم رئاسة الجمهورية اللبنانية السفير جورج حيمري وعدد من الشخصيات الدينية والسياسية. بقي البابا خمسين دقيقة في المطار حيث انتهز الفرصة ليدعو إلى السلام متمنّيًا أن ينعم لبنان بالأمان. تركت هذه الزيارة التاريخية أثرها في ذاكرة لبنان، الذي كان يستضيف للمرّة الأولى حبرًا أعظمَ على أرضه. منذ ذلك التاريخ بات لبنان محطة أساسية في حبرية البابوات الذين أتوا بعده. البابا يوحنا بولس الأول الذي خلفه لم يتسنّ له القيام بهذه الزيارة لأنه توفي بعد 33 يومًا وخلفه البابا يوحنا بولس الثاني الذي افتتح هذا الخط الكنسي بين كنيسة روما وكنائس لبنان والشرق.
زيارة بولس السادس أتت بينما كان الشرق يعيش أزمات الحروب والثورات، وبينما كان المسيحيون في لبنان لا يزالون يتمتعون بقوة الحضور في الدولة وعلى الأرض، وكانت محطته في بيروت قبل عام واحد من دخول لبنان عالم الزلازل والاضطرابات والحروب. بعد أربعة أعوام فقط في 28 كانون الأول كانت القوات الإسرائيلية تنفذ عملية عسكرية في مطار بيروت ردًّا على اختطاف طائرة إسرائيلية من قبل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتدمّر 13 طائرة مدنية تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية على أرض المطار. صحيح أن البابا بولس السادس لم يخصّص لبنان بزيارة خاصّة ولكنه افتتح هذا الخط.
يوحنا بولس الثاني رسم الطريق
استغرق الوقت 33 عامًا حتى دشن البابا يوحنا بولس الثاني في 10 و11 أيار 1997، ما يمكن أن يصير تقليدًا بابويًا عندما أتى إلى لبنان محمّلًا بالإرشاد الرسولي وداعيًا إلى قيامة جديدة. كان الزمن قد اختلف كثيرًا عن زمن 1964 من حيث واقع المسيحيين في لبنان وواقع الحروب والسلام المستحيل في الشرق الأوسط. منذ عام 1965 بدأت الحروب على الحضور المسيحي في لبنان وعلى معنى الدولة التي قامت منذ عام 1920. لم يكن الهدف تغيير الحدود بل تغيير النظام ونزع كل مواقع ومصادر القوة التي كان يتمتع بها المسيحيون. ليس صحيحًا أن استهداف هذا الحضور المسيحي في لبنان بدأ بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948 بل قبل ذلك بكثير. ليس لليهود تاريخ في الشرق منذ تبدّدوا في الأرض بعد عصر المسيح الأول، ولكن على العكس كان للكنيسة في لبنان حضور راسخ في هذا التاريخ وفي هذه الأرض منذ بدأت المسيحية ومنذ وطأت قدما المسيح ومريم العذراء صور وصيدا وقانا ومغدوشة.
كان البابا يوحنا بولس الثاني في مهمة إنقاذية لمسيحيي لبنان والشرق بعد النزف المستمر الذي تعرّضوا له على مدى أعوام بسبب الاضطهاد والتغيّرات السياسية والديموغرافية. كان لبنان الدولة الوحيدة في الشرق التي ظهر فيها بوضوح الحضور المسيحي في رأس الدولة وفي طريقة إدارتها وفي العيش. ولم يكن من السهل على البابا أن يشهد نهاية هذه التجربة لذلك حمل أعوامه ومعاناته الصحية لكي يبدأ رسم خريطة الإنقاذ مع البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير الذي رسخ حضور الكنيسة وتأثيرها، ولو لم يكن هذا الدور الذي لعبه صفير في لبنان لما كان أتى البابا.
محطات لا بدّ منها
من حريصا حيث السفارة البابوية، إلى بازيليك سيدة لبنان وبكركي والقصر الجمهوري في بعبدا، وواجهة بيروت البحرية، رسمت زيارة البابا الذي صار قدّيسًا طريق رجل القداسة الجديد. لم يكن خارطة للأمكنة بل للقاءات. مسؤولو الدولة والسلطة. رؤساء الكنائس الشرقية كلّهم. رؤساء الطوائف اللبنانية. كأنّ هذه اللقاءات كانت إلزامية ولكن روحانية الزيارة هي التي حكمت كل المحطات لأن اللبنانيين كانوا يريدونها محطة العودة إلى الضوء.
هكذا على خطى يوحنا بولس الثاني كانت زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر في 14 و15 و16 أيلول 2012، وقد سار على الطريق نفسه بحيث صارت المحطات التي سلكها من المطار عند الوصول وإلى المطار قبل المغادرة هي ذاتها.
لم يشذ البابا فرنسيس عن القاعدة. هو أيضًا كان يريد أن يأتي وأن يسير على خطى أسلافه ولكن على رغم تحديد موعد الزيارة في حزيران 2022 أُلغِيت في ظروف ملتبسة.
خروج لاوون عن النظام
مع البابا لاوون الرابع عشر تبدّلت البرامج البابوية قليلًا، ولكن هذا القليل كان يعني الكثير. حافظ لاوون على المسار العام ولكنه خرج عنه أيضًا. أربع محطات في زيارته أعطتها أبعادًا جديدة على صعيد العلاقة بين الفاتيكان ولبنان:
• زيارة ضريح القديس شربل في دير مار مارون في عنايا حيث صلى وسجد وبارك وترك وردة فاتيكانية على أمل أن تتفتح وتزهر وتحيا بإيمان جديد. فليست مسألة بسيطة أن يأتي بابا روما ليسجد أمام قديس من لبنان ليبارك ويتبارك.
• زيارة راهبات دير الصليب في بقنايا جل الديب حيث تظهر بصمات الطوباوي الأب يعقوب الكبوشي السائر على درب القداسة الذي كانت له تجربة رائدة في عيش الحياة الرهبانية المتقشفة ولكن الغنية بالأفضال والبركات والأعمال الصالحة.
• زيارة مرفأ بيروت حيث حصل التفجير الذي هز العالم، وبهذه الزيارة أراد أن يحيي الأمل بأن العدالة لا يمكن أن تموت، وأن أرواح الضحايا تنتظرها حتى تكون نهاية لمرحلة الإفلات من العقاب.
• العبور في قلب الضاحية الجنوبية حيث رُفعت الأعلام البابوية من دون أن تحجب الصورة هتافات "لبيك يا نصرالله" أو القول إنه مرّ في ضاحية السيد حسن. هذا العبور يجب أن يمهد لعبور الضاحية نحو لبنان الجديد الذي يحمي الجميع ويحرّرهم.
يشهد التاريخ لكنيسة لبنان
صحيح أن لبنان انهار بعد محطة البابا بولس السادس. وأنه عاد إلى الانهيار بعد زيارة البابا يوحنا بولس الثاني. وأن الحضور المسيحي في الشرق تراجع كثيرًا بعد بداية الألفية الثانية وبعد حروب العراق وسوريا وفلسطين. وصحيح أيضًا أن المسيحيين في لبنان الذين شكّلوا قوة دفع للحضور المسيحي في الشرق عكسوا أيضًا هذا التداعي في الحضور. ولكن كل ذلك لا يمكن أن يحجب الصورة الأساسية للكنيسة والمسيحيين في لبنان أولًا. هذه الكنيسة يشهد التاريخ أنّها مرت بأزمات كثيرة ولكنها دائمًا كانت تخرج أقوى وتستعيد الحضور والمبادرة والقوة.
ليس صحيحًا أن الكنيسة في لبنان وحدها في أزمة وتعاني. الواقع يقول إن الكنيسة على مستوى العالم كلّه، وحتى في الفاتيكان وروما، تعاني. ولعلّ البابا لاوون في خروجه عن المسار العام للمحطات البابوية، أراد أن يقول أيضًا إن كنيسة لبنان هي التي يمكن أن تمدّ كنيسة العالم بالقوة وبالقدرة على النهوض. هذه الكنيسة مع هذا الشعب أعطوا المثل لمعنى أن تكون مسيحيًا في لبنان وفي هذا الشرق. وعاشوا بالتجربة كيف يمكن أن تحيا في العصور الظلامية، وأن تنمو وتبقى محافظًا على ارتباطك بقيمك الدينية وبالأرض.
أن تكون مسيحيًا في روما
فالكنيسة في العالم اليوم تحتاج إلى بعث جديد وإلى الاتعاظ من تجربة الكنائس اللبنانية. من هذا المنطلق لم يعد يكفي أن تكون مسيحيًا في روما أو فرنسا أو أميركا، بل أن تعيد النشاط إلى هذه الكنائس وأن تحرِّر شعوبها من هذه العبثية ومن موجة اللاتديُّن، وأن تعيد الناس إلى الكنائس وتعيد القيمة إلى رسالة المسيح بقوة الروح القدس.
لذلك ومن باب تحويل لبنان إلى محطة بابوية لازمة لكل الباباوات في حبريّاتهم، لا بدّ من أن يكون للفاتيكان كرسي ثانٍ في لبنان يكرّس العودة إلى الشرق وعودة المسيحيين إلى هذا الشرق. صحيح أن بطريرك الموارنة كان منذ ألف ومئتي عام يتجه إلى روما للحصول على درع التثبيت، وأنه كان يحتاج أيضًا إلى تثبيت موقعه من السلطان العثماني، ولكن الصحيح أيضًا أن بابا روما بات يحتاج إلى أن يحجّ إلى لبنان كما يحجّ إلى الأراضي المقدسة في القدس والعراق وسوريا لكي يحدّد معنى الشهادة على طريق القدس.