عودة سوريا للجامعة العربية... هل تعيد عقارب الساعة مع لبنان إلى الوراء؟

جاء في "الراي" الكويتية: حين دَخَل لبنان مرحلة الشغور الرئاسي في الأول من نوفمبر الماضي، لم يتصوّر أحد أن ملفاً سياسياً آخَر قد يتقاسم معه صدارة الاهتمام الداخلي على غرار ما حصل منذ انطلاق قطار تنشيط العلاقات العربية السورية واستعادة دمشق مقعدها في الجامعة العربية، ما فتح في «بلاد الأرز» قضية شائكة، مزمنة في تعقيداتها ومتشابكة في خلفياتها التاريخية وأحداثها التي جعلت من العلاقات اللبنانية - السورية أكثر ملفات المنطقة العربية إثارة للجدل والتوترات.
وليس خافياً أن أي تطور في العلاقات العربية - السورية بعد سنوات من الجفاء والمقاطعة والحرب السورية والتدخل الايراني فيها ومن ضمنه مشاركة حزب الله، وصولاً إلى الإطلالة السورية المرتقبة في قمة الرياض في 19 مايو الجاري، من شأنه أن يترك انعكاسات مباشرة على لبنان، الساحة الخصبة المرتبطة بتطورات الواقع السوري في شكل وثيق.
احتفل لبنان في منتصف أكتوبر عام 2008 لأول مرة بتكريس علاقات ديبلوماسية مع سورية، بعد ثلاث سنوات ونيف من خروج جيشها في 26 ابريل 2005 على وهج اغتيال الرئيس رفيق الحريري وقيام ثورة الأرز وتظاهرات 14 مارس من العام نفسه التي طالبت بخروج الجيش السوري وإنهاء وصاية دمشق.

لكن قيام العلاقات الديبلوماسية وفتْح سفارتين وتَبادُل سفراء لأول مرة في تاريخ البلدين، لم يُنْهِ حال التشابكات بين دولتين، تحكّمت فيهما ظروفٌ شائكة وطموحاتُ سورية لوضع يدها على البلد الشقيق والجار الأقرب إليها.

ولم تكن عبارة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد «شعب واحد في دولتين» إلا تكريساً لنظرةٍ تَعاقَبَتْ عليها الأنظمة السورية المختلفة لـ بلاد الأرز«منذ ما قبل إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 ثم إعلان استقلال الوطن الصغير عام 1943، وصولاً إلى دخول الجيش السوري مرتين لبنان، الأولى في 1976 ضمن قوات الردع العربية والثانية عام 1990 حين شارك في عملية إخراج العماد ميشال عون من قصر بعبدا، استناداً الى الإحاطة العربية بتطبيق اتفاق الطائف لوقف الحرب وإرساء نظام جديد في لبنان.

لكن دمشق استفادت في المرتين لإحكام قبضتها على لبنان، ونفّذت سياستها فيه وصولاً إلى تطبيقها «نسخة سورية» من اتفاق الطائف الذي اغتيلت «صيغته الأصلية» مع الجريمة التي طاولت الرئيس رينيه معوض في 22 نوفمبر 1989، فلم تلتزم بانسحاب الجيش السوري كما نصت «وثيقة الوفاق الوطني»، بل ذهبت إلى صوغ معاهدات أمنية وعسكرية واقتصادية زادت من تَحَكُّمها في سياسة لبنان ووضعه الاقتصادي.

قبل الحرب اللبنانية التي نشبت عام 1975، ظلّت العلاقات بين بيروت ودمشق الشوكة التي تؤرق كل عهد لبناني، منذ أول رئيس للاستقلال بشارة الخوري الى آخِر رئيس طوى عهده مع بداية الحرب الرئيس سليمان فرنجية. وقد تكون الخيمةُ التي نصبت على الحدود اللبنانية - السورية لاستقبال الرئيس المصري جمال عبد الناصر عام 1959 أشهر اللقاءات الحدودية التي كان الرئيس فؤاد شهاب يحاول من خلالها تكريس استقلالية قرار لبنان، بعد الوحدة السورية - المصرية.

لكن اللقاء اللبناني - السوري الأول بين الرئيس حافظ الأسد والرئيس سليمان فرنجية في فندق بارك اوتيل شتورة في بداية عام 1975 عشية الحرب، وليس في القصر الجمهوري في بعبدا، اعتُبر في حينه مؤشراً إلى أن سورية كانت ولا تزال، تمتنع عن التعامل مع لبنان على أنه بلد مستقل.

وانقضى 27 عاماً قبل أن يزور الرئيس بشار الأسد لبنان مجدداً ليلتقي الرئيس اميل لحود في قصر بعبدا، في حين أن دمشق كانت دائماً تستقبل رؤساء لبنان في مرحلة الحرب وما بعدها، لعقد قمم ثنائية وتوقيع معاهدات.

كانت مرحلة ما بعد تطبيق الطائف منذ 1990 وحتى عام 2005، المرحلةَ التي شهدت النفوذ السوري المباشر، وهي الأصعب لبنانياً بعدما وقع الوطن الجريح منذ أن كان يتلمّس طريقه من تحت الركام في قبضة النظام السوري الذي اختار رئيسيْن للجمهورية الياس الهراوي واميل لحود ومدّد لهما مرتين، واتّهمه أفرقاء لبنانيون بأنه كان وراء عمليات الاغتيال التي وقعت منذ عام 2004 وصدور القرار 1559 الذي أعطى الإشارة الدولية لانسحاب الجيش السوري من لبنان.

هذه المرحلة انطبعت بتكريس النفوذ السوري عبر السياسة الخارجية التي كانت تكاملية مع سياسة دمشق الخارجية، إضافة الى النفوذ الأمني والمخابراتي السوري في لبنان والتحكُّم بقوانين الانتخاب التي أسفرت عن مجالس نواب في غالبيتها مؤيدة لسورية، عدا فئة من المعارضة التي وقفت ضد دمشق.

حكمتْ سورية لبنان في تلك المرحلة عبر حلفائها وعبر حزب العبث الذي كان ممثلوه نواباً ووزراء في حكومات لبنان المتعاقبة، وأمسكت بقبضتها الحياةَ السياسية والإعلامية، وصاغت اتفاقات عسكرية وأمنية وشقّتْ مجالات تنسيق مفتوحة بين الجيشين اللبناني والسوري.

وما بعد الخروج السوري لم يكن أقلّ وطأة، فما أن خرج السوريون من لبنان حتى عرفَ مرحلةَ شدِّ حبال مع دمشق أولاً في شأن تكريس العلاقات الديبلوماسية وثانياً في مرحلة ما عُرف بـ السين - سين اي المبادرة السعودية - السورية في 2010 التي حاولتْ احتواء تداعيات القرار الاتهامي قبيل صدوره عن المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الحريري، ومن ثم الحرب السورية.

ثلاثة عناوين تفرّعت من الحرب السورية، الأول شكله بدء نشاط المجموعات المتطرفة عند الحدود اللبنانية السورية، وما نتج عنها لاحقاً مع حرب «فجر الجرود»، وما سبقها من خطف عسكريين لبنانيين واستشهادهم. ثانياً ملف الكبتاغون الذي تنشط عصابات تصنيعه بين لبنان وسورية، وثالثاً قضية النازحين.

وفي الملفات الثلاث كانت هناك إحاطة عربية نظراً إلى تَشابُكها ولانعكاسات وجود تنظيماتٍ متطرفة وقفت الدول العربية ضدها.

وقد اكتسبت قضية الكبتاغون طابعاً دقيقاً أمنياً، وشكلت بالنسبة إلى لبنان بعد كشف عمليات التهريب المتتالية الى دول خليجية، ملفاً حساساً أثّر في علاقاته مع هذه الدول وهو سيكون أحد العناوين الأساسية في تنشيط علاقات الدول العربية مع سورية باعتبار أن تهريب الكبتاغون إلى هذه الدول، هو أحد أكثر القضايا الأمنية حساسية، وقد بدأت الساعاتُ الأخيرة تعطي ملامح عن اتجاهات التعاطي معه.

أما ملف النازحين فهو المتفجّر لبنانياً... ورغم أن لبنان والأردن يشكلان أكثر البلدان العربية تأثُّراً بملف النازحين، لكن «موازييك» لبنان الطائفي والعوامل الديموغرافية ورخاوة وضعه الأمني وحجم الوجود السوري قياساً إلى عدد المقيمين اللبنانيين، بات يشكل عامل ضغط داخلياً على كل القوى، مؤيدةً لنظام الأسد أو مُعارِضة لها.

ومن الطبيعي أن ينتظر لبنان من سورية وضع عودة النازحين إلى بلادهم على رأس الأولويات، لكن دمشق لا تزال تتريث في التعاطي مع هذا الملف بما تقتضيه مصلحة بيروت، لأنها تنتظر تنسيقاً سياسياً وأمنياً على مستوى حكومي عالٍ، ولم تعد تكتفي بعمل لجان وأجهزة أمنية لبحث رجوع النازحين السوريين إلى بلادهم. وهذا يعني أن عودة العلاقات العربية مع سورية من شأنها أن تُضاعِف تمسك دمشق بهذا الشرط، وقد بدا حديث «حزب الله» يصبّ في هذا الإطار.

علماً أن أحد أبرز عناصر حملة رئيس تيار المردة سليمان فرنجية (المدعوم من «حزب الله» ورئيس البرلمان نبيه بري) لرئاسة الجمهورية هو موضوع النازحين، نظراً إلى علاقته الوثيقة مع الأسد والنظام السوري.

من هنا تسود خشية لدى أفرقاء في المعارضة اللبنانية من أن تعود انتخابات رئاسة الجمهورية عاملاً في يد سورية، ولو أن إيران هي التي لا تزال تتحكّم باللعبة الإقليمية في لبنان وسورية معاً. إلا أن حلفاء سورية المحليين يُبْدون ارتياحاً إلى تطبيع العلاقات العربية معها ما يعني إعادة تنشيط حركة هؤلاء في لبنان.

منذ الحرب السورية تقع «بلاد الأرز» تحت ضغط التأثيرات السورية في كل الملفات الاقتصادية والأمنية والسياسية. واليوم تعود دمشق إلى واجهة الحدَث، بعد استراحةٍ عرفها لبنان في مرحلة عام 2005 وما بعدها بسنوات قليلة.

فهل تعود عقارب الساعة إلى الوراء مجدداً ولا سيما أن سورية تُمْسِك بورقة مزدوجة بالغة الأهمية يشكلها ترسيم الحدود البرية والبحرية مع لبنان، وهو الملف العالق كسواه؟