عيد انتقال السيدة العذراء… إلتزام روحي يتوارثه اللبنانيون جيلًا بعد جيل

لو كُتِبَت مئات بل آلاف الكلمات، فلن توفّي السيّدة العذراء حقها في قلوب اللبنانيين، فهي الأمّ الحبيبة، البتولة الحكيمة المكرّمة، أرزة لبنان، معونة المسيحيين، وسلطانة الشهداء. القديسة التي تتجاوز مكانتها حدود الطوائف والمناطق. ليس غريبًا أن يكون لبنان قد سلّمها حماية أرضه وأبنائه من الشرّ، والكنيسة التي أقدمت على تسمية كنائسها وأديرتها ومزاراتها على اسمها، لتظلّ حاضرة في وجدان الناس وفي جغرافيا الأرض على حدّ سواء. ومع حلول عيد انتقالها في 15 آب، تتجدّد مشاهد الإيمان والفرح، في تلاقي الروحانيات مع التقاليد الشعبية التي تزيّن القرى والبلدات من الشمال مرورًا بالبقاع وجبال لبنان وصولًا إلى الجنوب.

ويشير الأب ريكاردو مسعد في حديث لـ "نداء الوطن" إلى أن مريم ليست فقط أمّ الربّ في العقيدة، بل هي أيضًا أمّ الشعب، تحمل همومه وترافقه في أفراحه وأحزانه. فمن شمال لبنان إلى جنوبه، ومن الساحل إلى الجبل، تنتشر المزارات المريمية التي تحوّلت إلى محطات حجّ وإيمان: سيّدة لبنان في حريصا، سيّدة المنطرة في مغدوشة، سيّدة بشوات، سيّدة زحلة والبقاع، وغيرها.

كما تحتلّ مريم مكانة بارزة في التراث اللبناني من التراتيل والأغاني الشعبية إلى الشعر والفلكلور، حتى الرحابنة غنّوا لها بكلمات بسيطة تعبّر عن تقوى الشعب. والأهم أنها تبقى جسرًا روحيًا بين اللبنانيين على اختلاف طوائفهم، إذ يجلّها المسيحيون والمسلمون معًا، ويطلبون شفاعتها، ما يجعلها رمزًا للوحدة الوطنية.

عيد عالمي ببعد لبناني خاص

عيد انتقال العذراء مريم إلى السماء بالنفس والجسد، الذي يُحتفل به في 15 آب، ليس مناسبة محلية فحسب، بل هو عيد عالمي ورسمـي في الكنيسة الكاثوليكية، تشارك فيه أيضًا الكنائس الأرثوذكسية تحت اسم "عيد رقاد والدة الإله". وقد أقرّ الإمبراطور البيزنطي موريس في القرن السادس جعله عيدًا رسميًا، فيما تعتبره دول عديدة عطلة وطنية، بينها لبنان، فرنسا، إيطاليا وبولندا.

يشرح مسعد أن مريم تُنادى في لبنان بألقاب حنونة مثل "ستنا" و "أمّنا"، وهي حاضرة في كلّ بيت، وكلّ مزار، وعلى جدران المنازل في صور وأيقونات، وفي قلب كلّ صلاة متوجّهة إلى اللّه.

ويضيف مسعد أن هذا العيد في لبنان يتخذ بعدًا وطنيًا، إذ إن العذراء مريم كانت دائمًا رمزًا للصمود والاستقلال في وجه الاحتلالات والأزمات، مشيرًا إلى أن البطريرك المكرّم إلياس الحويك نذر لبنان للعذراء في بدايات القرن العشرين، وأن زيارات الباباوات للبنان غالبًا ما تضمّنت محطة في مزار سيدة لبنان - حريصا.

جذور لاهوتية وتاريخية

الحدث نفسه لا يرد حرفيًا في الكتاب المقدس، لكنّ التقليد الكنسي والشفهي، المدعوم بكتابات الآباء، يؤكّد أن مريم بعد أن أكملت حياتها الأرضية، لم يعرف جسدها فساد القبر، بل رُفعت إلى السماء بالنفس والجسد. وقد بدأ الاحتفال بهذه الحقيقة الإيمانية في القرن الخامس في أورشليم، قبل أن ينتقل إلى الغرب باسم "عيد الانتقال".

وفي الأول من تشرين الثاني 1950، أعلن البابا بيوس الثاني عشر عقيدة الانتقال رسميًا، مؤكّدًا أن "مريم الدائمة البتولية، بعد أن أنهت حياتها الأرضية، انتقلت بالنفس والجسد إلى المجد السماوي".

"مريم" رفيقة درب البطاركة

أكد الخوري ريكاردو مسعد أنّ تسمية الأصرحة البطريركية على اسم السيدة العذراء ليست مجرّد تقليد رمزي أو طقس ليتورجي، بل هي خطوة ذات دلالة لاهوتية وروحية تعبّر عن عمق العلاقة التي تجمع الكنيسة، وبالأخص رعاتها، بأمّ الربّ وأمّ الكنيسة.

يوضح مسعد أنّ مريم، كما كانت حاضرة مع الرسل في العلّية تصلّي وتنتظر حلول الروح القدس (أعمال 1:14)، تواكب البطاركة في مسيرتهم الرسولية. ويضع هؤلاء حياتهم وخدمتهم تحت شفاعتها، لتكون أمًّا ترافقهم وتعضدهم في دربهم.

ويضيف الخوري ريكاردو مسعد لـ "نداء الوطن" أنّ مريم هي صورة الكنيسة في المجد، فانتقالها بالنفس والجسد إلى السماء يعبّر عن إيمان الكنيسة برجاء القيامة والحياة الأبدية، خصوصًا لرعاتها الذين خدموا شعب اللّه. ولهذا، فإن وضع كلّ من مقرّي البطريركية في بكركي (الشتوي) والديمان (الصيفي) تحت شفاعة سيدة الانتقال هو تأكيد على هوية الكنيسة المارونية ككنيسة رجاء، تعيش على مثال مريم وتتطلّع مثلها إلى المجد السماوي.

ويتابع، "انتقال مريم إلى السماء هو علامة رجاء، بأن مصير المؤمن ليس الموت والفساد، بل القيامة والمجد".

الحصن الأمين

ويرى مسعد أنّ مريم هي الحصن الأمين، فالبطريرك في خدمته يواجه تحدّيات وصعوبات جمّة، ووضع الصرح تحت كنف العذراء هو إعلان ثقة بأنّ الراعي، في حياته وبعد موته، يبقى محفوظًا "تحت جناحيها".

هذا المفهوم يترجمه التراث الروحي في الكنيسة المارونية، حيث تتردّد في الصلوات الموروثة عبارة: "تحت حماية سيدة الانتقال". ويوضح مسعد بالقول: "الصرح المريمي فعل تسليم واعتراف، بأنّ كل خدمة بطريركية، مهما علت، تبقى خاضعة لتواضع العذراء، وتجد اكتمالها في نور مريم التي سبقتنا جميعًا إلى المجد".

رمز للرجاء والوحدة

الأساس اللاهوتي لهذا العيد يقوم على أن مريم "الممتلئة نعمة" لم تمسّها الخطيئة، واشتركت في آلام المسيح ومجده، وهي أيقونة الكنيسة وما نالته هو عربون ما سيناله المؤمنون في القيامة. ومن هنا، يوضح الخوري مسعد أن العيد يذكّر المؤمنين برجاء القيامة، ويدعوهم للاقتداء بمريم كأمّ وشفيعة ومعينة في درب القداسة.

لذا، يبقى عيد انتقال العذراء مريم في لبنان أكثر من مناسبة دينية، هو محطة جامعة تعكس حبّ اللبنانيين لأمّ الوطن، وتؤكد أن الإيمان يمكن أن يكون جسرًا للوحدة في أصعب الظروف.

عيد انتقال السيدة بين عبق البخور وقرع الأجراس ورفع الجرن

في هذا اليوم، تشهد القرى والبلدات التي تحتضن هذه المقامات قداديس احتفالية يشارك فيها المئات من المؤمنين، تتخللها التراتيل المريمية والمواكب الدينية التي تجوب الشوارع المزدانة بالشموع والزهور. وتتحوّل الساحات المحيطة بالكنائس إلى ملتقى للأهالي والزوار، حيث تُتبادل التهاني وتنظم الموائد المفتوحة، فيما يفي كثيرون بالنذور التي قطعوها، سواء عبر تقديم المساعدات أم المشاركة في مبادرات خيرية.

وفي بعض المناطق، ترافق الاحتفالات فعاليات شعبية تضيف إلى المناسبة طابعًا تراثيًا، من حلقات الدبكة والموسيقى الفلكلورية، إلى مباريات رفع الجرن وقرع الجرس، حيث يتبارى أبناء البلدة في أجواء عائلية وأخوية. أما على الصعيد الاجتماعي، فيمثل العيد فرصة لعودة المغتربين إلى قراهم، وتجديد الروابط العائلية، في مشهد تختلط فيه أصوات الأجراس بنفحات البخور وبهجة اللقاء.

لذا، يبقى عيد انتقال السيدة في لبنان أكثر من مجرد مناسبة دينية، فهو موعد سنوي تتجدّد فيه قيم الإيمان والمحبة، وتتقاطع فيه الأبعاد الروحية مع نبض الحياة اليومية. بين صوت الأجراس ووجوه المصلّين ودفء اللقاءات العائلية، يظلّ هذا العيد رمزًا لوحدة المجتمع وتشبثه بجذوره، مهما تغيّرت الأزمنة وتعاقبت الأجيال.

ومن أبرز هذه المقامات والكنائس:

سيدة الوردية – حراجل، سيدة المنطرة – مغدوشة، سيدة بشوات – دير الأحمر، كنيسة السيدة – بشري، كنيسة سيدة البشارة – الحدث، كنيسة سيدة البحر – البترون، كنيسة سيدة الانتقال – جزين، دير السيدة العذراء – بزمار، كنيسة سيدة الغسالة - القبيات ومقام سيدة زحلة والبقاع.