غسّان سلامة: لسنا وحدنا.. الإصلاح هو الحلّ

مذ غادر حقيبة الثقافة للمرّة الأولى عام 2003 غاب غسّان سلامة عن لبنان وعن سياساته الداخلية أكثر من عقدين من الزمن. وما خلا مهمّته موفداً للأمين العامّ للأمم المتّحدة إلى ليبيا، انصرف إلى التعليم الجامعي في باريس ونيويورك إلى أن تقاعد قبل سنوات. أنجز الجزء الأوّل من ثلاثيّته عن النظام الدولي، الذي أصدرته دار Fayard، وكان عاكفاً على الجزء الثاني عندما دُعي إلى بيروت مجدّداً.  

بعد التجربة الأولى في حكومة الرئيس رفيق الحريري (2000 ـ 2003)، عُيّن غسان سلامة في الحقيبة نفسها عام 2005 إضافة إلى حقيبة التربية والتعليم العالي في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، لكن سرعان ما استقال بعد ساعات فخلفه أسعد رزق. اعتذر أيضاً عن الانضمام إلى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في السنة نفسها، وآثر الابتعاد. أخيراً طُرح اسمه للمرّة الرابعة وزيراً في حقيبة مختلفة هي الخارجية في الحكومة التي كان من المفترض أن يؤلّفها ميقاتي لتكون أولى حكومات عهد الرئيس جوزف عون وجرى الاتّفاق عليها، لكن لم تعمّر إلّا من بعد ظهر السبت 11 كانون الثاني إلى بعد ظهر الأحد 12 منه.

في ساعات قليلة انتقل السراي من ميقاتي إلى الرئيس نوّاف سلام. أُعيد اقتراح توزيره، وهو كاثوليكي، في حقيبة الخارجية على أن يحلّ مارونيّ في وزارة الدفاع، فامتعض الأرثوذكس. وبتبادل الحقيبتين واستقرار اسم اللواء ميشال منسّى الأرثوذكسي لحقيبة الدفاع، أضحت وزارة الخارجية من حصّة الموارنة الذين عارضوا مآلها إلى كاثوليكي. آخر مرّة تسلّم فيها كاثوليكي حقيبة سيادية كانت حين اختير ألبير منصور وزيراً للدفاع بين عامَي 1989 و1990.

الدّور لا الحقيبة

الدور لا الحقيبة هو ما أعاد سلامة إلى وزارة الثقافة، وثقته بالحاجة الملحّة إلى مناعة يتطلّبها لبنان في مرحلة ما يسمّيه “التحوّلات التي تمرّ فيها المنطقة تتداخل فيها الحروب بالحلول”. مكّنته هذه المناعة في أثناء مهمّته موفداً للأمين العامّ للأمم المتحدة إلى ليبيا من التوصّل إلى وقف دائم للنار في 20 كانون الثاني 2020، لا يزال سارياً إلى اليوم، وانبثق من مؤتمر برلين الخاصّ بالأزمة الليبية يومذاك، وكان سلامة أعدّ له. وعلى الرغم من مغادرته مهمّته لمّا يزل يتتبّع بنفسه في الصحف صمود وقف النار الليبي الذي وفّر على تلك البلاد الكثير.

حاجة لبنان إلى المناعة يعزوها سلامة إلى ضرورتين: أولى داخلية هي إعادة الاعتبار إلى الإدارة العامّة “المستقرّة المتينة والثابتة التي تُنعت بها الدولة الحقيقية لا بالرؤساء ولا الوزراء لأنّ هي الأصل في الدولة. كانت كذلك قبل الحرب عندما كان المدير العامّ للمال مثل خليل سالم أقوى من عشرة وزراء، ورئيس مجلس الخدمة المدنية مثل الشيخ فريد الدحداح يساوي عند الرئيس فؤاد شهاب مجلس الوزراء مجتمعاً. المديرون العامّون والقضاة هم قاعدة هرم الدولة. وحده شهاب نجح في إقامة دولة استطاع رفع مناعتها إلى أعلى درجة عرفها لبنان في تاريخه. الآن في سنة وأربعة أشهر من عمر حكومتنا أكثر ما نحتاج إليه هو إدارة عامّة فاعلة. المهمّة صعبة. ولأنّها كذلك قبلتُ الانخراط في فريق عمل ناجح بمواصفاته وتجاربه. صعوبة المهمّة أخذتني قبلاً إلى ميانمار والعراق وليبيا. كلّ منها كان وضعه شاقّاً”.

ماذا عن الضرورة الثانية المرتبطة بتحوّلات الحروب والحلول؟

يقول سلامة: “نحن في مربّع يضمّ لبنان وسوريا والعراق وفلسطين. نشأت من داخله قوّتان محلّيّتان شاءتا أن تصيرا إقليميّتين، إلّا أنّ مشروعَيْهما في نهاية المطاف أخفقا، وهما حافظ الأسد وصدّام حسين. دخلت المربّع من خارجه ثلاث قوى إقليمية كبرى هي إيران وإسرائيل وتركيا، وهي تلعب داخله الآن وتعمل على إعادة صوغ التوازنات الداخلية في كلّ من دول المربّع. ما شهدناه أخيراً يعكس هذه الصورة. بعد 61 عاماً من حكم البعث لسوريا سقط، وبعد 53 عاماً من حكم آل الأسد لسوريا سقط. هذا في ذاته حدث خطير ومهمّ”.

يضيف: “لا أبو مازن في مأمن، ولا حماس في مأمن. كلاهما مرشّحان لأن لا يبقيا. العراق يشهد مخاضه. نحن أيضاً بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة والتحوّلات الإقليمية من حولنا في مخاض مماثل. الأهمّ في ما حدث داخل هذا المربّع أنّ إسرائيل انتصرت على إيران في حربَيْها في غزة ولبنان، فيما واقع ما انتهت إليه هاتان الحربان وسقوط النظام السوري أنّ إيران وتركيا ظهرتا أنّهما أقدر من إسرائيل على الإمساك بالمربّع من جرّاء علاقات دينية ومذهبية وعقائدية وسياسية وتاريخية ذات صلة بالغزوات. أمّا إسرائيل فلا تملك إلّا أن تنتصر عسكرياً من دون أن تهيمن على أيٍّ من أجزاء هذا المربّع. وهي دائماً في حروبها تنتصر بقوّتها وبطشها. ما شهدناه أخيراً في الحرب على لبنان لم يكن في حسبان أحد. وحدهما إيران وتركيا قادرتان على الهيمنة لتلك الأسباب”.

يضيف: “حيال ذلك نحن، البلد الصغير، مناعتنا متدنّية ونحتاج إلى رفع درجتها. يكتب المؤرّخون عن الأحداث التي تقع، فيما المناعة التي نتطلّبها هي التنبّه من الأخطاء التي لم تحدث بعد وقبل أن تحدث. مناعتنا حيال ما حدث أخيراً في سوريا أن نخفّف من آثاره علينا، وهو خطير، وأن نحلّ المشكلة الحدودية معها ودّيّاً، وأن نحول دون جرّنا إلى ما يقع عندها، كأن نقنع وليد جنبلاط بدور إيجابي بعدم الربط أكثر بين دروز لبنان ودروز سوريا في وقت يواجه دروز سوريا وإسرائيل مشكلة خيارات ومرجعيّات. ويكون تفادي الأحداث لئلّا تحصل بالتسلّح بالمناعة المطلوبة لنا”.

لسنا وحدنا..

ماذا يسع حكومة سلام أن تفعل لرفع درجة مناعة الداخل؟

يقول سلامة: “الحكومة ليست متروكة. إلى جانبها قرار دولي إضافة إلى قرار خليجي. الأهمّ أن ننتبه نحن اللبنانيين إلى أنّ الخليج العربي تغيّر كثيراً. ذلك ما لا يزال الكثيرون يتجاهلونه أو يتعامون عنه أو لا يصدّقونه. لم يعد الخليج بالسخاء المجّاني كما كان الأمر من قبل. مساعداته من الآن فصاعداً محسوبة ومدروسة، ومقترنة بمرورنا بصندوق النقد الدولي والاستجابة لشروطه من خلال تنفيذ برنامج الإصلاح. من غير ذلك لا مساعدات. الحرب الأخيرة أدخلتنا في رقعة الدول المدمّرة مثل سوريا وغزة. مجموع ما قد تحتاج إليه إعادة إعمارها يبلغ  نحو 200 مليار دولار، حصّة لبنان فيها هي الدنيا بنحو 15 ملياراً، فيما الحصة الكبرى لسوريا. لن تقدّمها إلّا الدول الخليجية الأربع السعوديّة والإمارات والكويت وقطر”.

يقول سلامة: “لسنا وحدنا نحتاج إلى إعادة إعمار كما كان الحال في عام 1982 على أثر الاجتياح الإسرائيلي. هذه المرّة يقاسمنا الحاجة إليها ضحايا آخرون ينافسوننا عليها. لذا سنكون أكثر المعنيين باستعجال الإصلاح الضريبي والمصرفي والقضائي. من دونه لا مساعدات ولا إعادة إعمار. أعرف أنّ المتضرّرين من الإصلاح كثيرون لأنّهم سيفقدون مصالحهم، وقد يقوّضها تحقيقه. إلّا أنّه لا خيار أمامنا سواه، ولا بديل منه لإعادة الإعمار. تحدّث البيان الوزاري عن المناعة من خلال إعادة بناء الدولة وما يُفترض أن تظهره قرارات الحكومة وإجراءاتها والتعيينات المقبلة”.