فقدان لقاحات الأطفال: أجيال جديدة بأمراض قديمة مميتة

يشهد القطاع الصحي حالًا من الفوضى والأزمات المستجدة. ويعيش اللبنانيون اليوم في دوامة من الخوف والقلق على مصير أطفالهم، بعد انقطاع اللقاحات وانعدام فرص الحصول عليها إلا من تجار السوق السوداء. لذا، يصبح تأمين اللقاح حكرًا على الفئة الميسورة أو القادرة على شرائه من خارج لبنان، تفاديًا للأمراض الخطيرة والقاتلة التي قد يسببها التخلي عن التطعيم في مرحلة الطفولة. 

 

تراجع تطعيم الأطفال

حسب تقرير منظمة الأمم المتحدة (اليونيسيف) تحت عنوان "تفاقم أزمة الأطفال الصحية في لبنان"، المنشور في 20 نيسان الفائت، تراجع تطعيم الأطفال في لبنان بنسبة 31 في المئة.

وحذرت المنظمة من أن هذا التراجع الحاد في معدلات التطعيم الروتينية ترك الأطفال عرضة للأمراض المميتة المحتملة، مثل الحصبة وعدوى الدفتيريا. وتراجع معدلات التحصين عند الأطفال يثير القلق في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية وانهيار القطاع الصحي والاسشتفائي، ما يجعل فرصة حصولهم على العلاج صعبة جدًا.

 

عجز الأهل

وفي حديث "المدن" مع الدكتورة زينب طحش، وهي طبيبة أطفال في بيروت، أكدت أن فقدان اللقاح بات يشكل خطرًا واضحًا على حياة الأطفال. فالعديد من اللقاحات مفقودة في وزارة الصحة، وبالتالي يصعب على الطبيب تأمينها بالطرق المعتادة، ولم يعد أمام الأهالي إلا حل واحد: البحث عنها في السوق السوداء وشراؤها بالدولار الأميركي.

وتضيف الطبيبة: "لذا، توقف أهل كثيرون عن تطعيم أطفالهم بسبب عجزهم عن شراء الطعم الواحد بمبالغ باهظة. وهم يكتفون بالاتصال بي لمعرفة سبل تأمينه وتكلفته". لتبدأ بعدها جولة التفتيش عنه لأيام عدة للحصول عليه، شريطة الدفع بالدولار الأميركي. لكن الأهل غالبًا ما يعاودون الاتصال بها راغبين تأجيل موعد تطعيم طفلهم، بسبب صعوبة تأمين تكلفته بالدولار الأميركي. وهناك أنواع عدة من اللقاحات غير متوفرة أبدًا في وزارة الصحة أو المستشفيات أو عيادات الأطباء، حتى في السوق السوداء، مثل لقاحي التيفوئيد والسحايا-ميناكترا. وهما مهمان جدًا لتقوية مناعة الطفل وحمايته من الأمراض ولا يمكن تجاهلهما أبدًا. وقالت طحش أنها لاحظت في الآونة الأخيرة انتشار الصفيرة بين الأطفال وكذلك التيفوئيد والجدري، بسبب عدم تحصين الأطفال باللقاحات لحمايتهم.

ومن جهة أسعارها تؤكد طحش أن أسعار اللقاحات باتت مرتفعة جدًا، وأصبحت عبئًا على أصحاب الدخل المحدود، حيث أنها ثُبِّتت على الدولار الأميركي، فيتراوح سعر اللقاح الواحد بين 75 و100 دولار أميركي، وقد يصل أحيانًا إلى 5 ملايين ليرة لبنانيّة.

في المقابل حاولت وزارة الصحة تأمين بعض الأنواع البديلة، كتوفير لقاح بديل عن الخماسي الذي يعطى لحديثي الولادة حتى عمر 8 أشهر. إلا أن هذا البديل له آثار جانبية مزعجة، حيث يؤدي إلى ارتفاع حرارة الطفل وورم في اليد وغيرها، فيما لقاح الخماسي لا يسبب أي أعراض. لذا تجنب الأهالي كل الأنواع البديلة.

 

عودة الأوبئة؟

يرى الدكتور محمد مزرعاني، وهو طبيب أطفال، أن أزمة شح الدواء حولت مهنة الطب إلى تجارة. وأكد أن عشرات الاتصالات تنهال عليه من مواطنين خائفين على حياة أطفالهم، فيحاولون إيجاد اللقاح بشتى الطرق. فيكرر غجابته أن اللقاح مقطوع وهو غير قادر على تأمينه.

أجرت "المدن" اتصالات عدة مع عدد من الأطباء المختصين في طب الأطفال وفي الصحة العامة، فأعلنوا أن صحة الأطفال في خطر كبير، مشددين على ضرورة تحرك وزارة الصحة لإيجاد الحلول السريعة قبل أن تتفاقم هذه المشكلة. وأكدوا على ضرورة تطعيم الأطفال في الوقت المناسب، حيث أن أكثر الحالات المسجلة لوفاة أطفال تحت عمر خمس سنوات كانت بسبب عدم تلقيهم لقاح الروتا، ما أدى إلى فقدانهم كميات كبيرة من السوائل والمعادن المهمة في أجسامهم بفعل نوبات إسهال وقيء حادة. أما فيروس الجدري فيسبب بالتهاب في نسيج الدماغ ويؤدي إلى وفاة من لم يتلق اللقاح، في حال انتشر هذا الفيروس في أعضاء الجسم.

ويعتبر مزرعاني أن هذه الأزمة وضعت الأهالي أمام منعطفين. الأول هو لجوء العائلات الميسورة إلى شراء اللقاح من السوق السوداء بالدولار الأميركي أو طلبه من خارج لبنان. والثانية تخلي العائلات المفقرة عن تطعيم أطفالها، وانتظار وزارة الصحة ريثما تستطيع تأمين اللقاحات أو انتظار توفرها مجانًا في مراكز الرعاية الصحية الأولية.

 

حلول بديلة

وأمام شبح هذه الأزمة لجأ العديد من الناس إلى شراء الأدوية والمركبات التي تقوي المناعة، وعمدوا إلى تغيير النظام الغذائي لأطفالهم، وصبّوا تركيزهم على الأطعمة التي تقوي مناعة الطفل. وهذه محاولة خجولة لحماية أطفالهم من الأمراض. إلا أن هذه الطريقة يعتبرها الأطباء غير فعالة، إذ لا يوجد أي بديل للقاح ولا يمكن تعويضه بأي نوع من الأطعمة الغذائية.

أما العائلات المقتدرة فتقدم على شراء اللقاح من خارج لبنان، تونس، مصر، دبي، وتركيا. وتروي السيدة منى ح. (33 سنة) رحلتها في التفتيش عن لقاح السحايا لطفلتها من خارج لبنان، بعد أن حاولت كثيرًا شراءه من السوق السوداء ولم تمانع في دفع أي مبلغ بالدولار الأميركي مقابل الحصول عليه، ولكنها عجزت. فتواصلت مع صديقتها في تونس التي أكدت لها توفر اللقاح هناك. فاشترت لها برادًا صغيرًا مزودًا بأربعة ألواحٍ من الثلج للحفاظ على فعاليته، ووضعت جرعة اللقاح بين عدة طبقات من ورق مخصص لحفظ حرارته وأرسلته إلى لبنان.

تختلف أسعار اللقاحات بين بلدٍ وآخر تبعًا لطريقة إرساله إلى لبنان. يطلب بعض القادمين إلى لبنان مبالغ لحمله وإيصاله. وتعد أسعار اللقاحات رمزية خارج لبنان، إذ لا تتعدى أحيانا 20 دولارًا، لكن ثمن البراد الصغير يتراوح بين 50 و60 دولارًا.

وإزاء هذا الوضع، يرى المواطن نفسه مجردًا من أدنى حقوقه في هذا البلد المنكوب، وعاجزًا على تأمين الرعاية الصحية لأطفاله. وبعد سلسلة معقدة من المعاناة اليومية التي  تبدأ بأزمة المحروقات، الرغيف، الدواء، الحليب.. ها نحن اليوم نضيف أزمة  جديدة هي اللقاحات. ولا يبقى أمام الللبنانيين إلا الاعتماد على هبات ومساعدات المنظمات الخارجية.