المصدر: نداء الوطن
الكاتب: زيزي اسطفان
الجمعة 28 آذار 2025 07:16:39
في عالم ينبذ الضعفاء ويمجد الأصحاء الأقوياء، في عالم يقفل أبوابه في وجه من تقطّعت بهم سبل الأمل في متاهات الإعاقة العقلية والأمراض النفسية ووهن الشيخوخة، يرتفع دير الصليب شامخاً ومتواضعاً، ثائراً وخادماً. إنه ملاذ يضج بالرحمة والإنسانية، يتحدى ظلم الحياة وقسوتها ليحتضن بين جدرانه أرواحاً تخلى عنها الجميع. هكذا أراده "أبونا يعقوب" موئلاً للخير لأن فاعل الخير يشبه الله الذي يسكب إنعاماته على أبنائه.
في حيّ السيدة ضمن مستشفى دير الصليب يرتفع بناء يتألف من عدة طوابق، ليس فيه ما يميزه من الخارج، وقد يمر العابر من أمامه دون أي تأثر، ويكمل طريقه غير عابئ. لكن لو توقف العابرون ودخلوا إلى هذا المبنى، وتوجهوا إلى قسم "سان دومينيك"، لتغيرت أشياء كثيرة في حياتهم: إيمانهم، إنسانيتهم، رجاؤهم، علاقتهم بربهم وببعضهم، ولاختلفت نظرتهم إلى الحياة وإلى ما تغدقه عليهم من نِعم. هنا، يعيش أطفال مجروحون في ذكائهم، معوقون في أجسادهم، حرمتهم الحياة من كل شيء إلا من الحب والرعاية التي يقدمها المركز لهم. 58 طفلاً ومراهقاً وشاباً يعانون ما هو أبعد من الإعاقة، بحيث لا يمكن لأي مركز آخر استيعاب حالاتهم.
حين ينتفي الأمل
"نستقبل حالات الإعاقة الذهنية القصوى، ممن لا أمل في تطورهم، وغير القادرين على استيعاب أي برنامج تأهيلي أو تعليمي. نستقبلهم منذ الولادة، ونتكفل باحتياجاتهم الأساسية. أما القادر على التعلم أو التطور فنتركه للمراكز التأهيلية المختصة"، تقول الأخت روز حنا المسؤولة عن المركز. أطفال نسيهم العالم، وأبعدهم عن ناظريه فتلقفهم "سان دومينيك" شفيع الأطفال. بعضهم يصعب النظر إليه، هائماً على كرسيه خلف نظرة جامدة تتأمل الفراغ، أو مطوياً على ذاته كخرقة قماش يصعب فضها، أو متقوقعاً فوق فراشه كقفّة همّ رابضة في مكانها. وجوه انطعجت ملامحها، واكتست بتفاصيل إعاقة عقلية حادة ينيرها قلب بريء نقي.
كيف يعيشون؟ من أين يستمدون القوة للبقاء؟ ومن أين يستمد طاقم العناية القوة والنعمة لبذل مجهود حب يفوق طاقة الإنسان العادي؟ المساعِدة الاجتماعية راشيل أشقر المسؤولة عن المركز منذ أكثر من عشرين عاماً، تختصر أسئلتنا بإجابة واحدة: "هم يعطوننا أكثر مما نعطيهم. يعطوننا الفرح والمحبة يتقبلوننا كما نحن. رغم الصعوبات الجمّة، معهم ننسى العالم الخارجي نضع جانباً مشاكلنا الشخصية وهموم حياتنا، لننغمس في عالم من البراءة الخالصة. هؤلاء الأطفال غير مدركين لحالتهم فرحون كما هم، لا عدوانية ظاهرة عندهم، إنما اضطرابات سلوكية ناجمة عن جرح عميق في الذكاء. إنهم أبناء وأخوة صغار لنا بحاجة إلينا في كل احتياجاتهم ليعيشوا ويكبروا. ليسوا قادرين على اكتساب الاستقلالية، لكننا نساعدهم ليكونوا مرتاحين ونفرح بما نقوم به. من جهتهم يعبرون عن فرحتهم ببسمة، نظرة أو حركة مبهمة نفهم نحن معناها".
من أصل 58 ولداً يقيمون في المركز، 7 منهم فقط قادرون على الكلام والتواصل شفهياً مع فريق العمل، بينما يبقى الآخرون صامتين، معزولين في عوالمهم الخاصة. نتأملهم، نتأمل المحيط ونلمس حجم الجهد الذي يحتاجون إليه حتى في أبسط الأمور. معظمهم غير قادرين على تناول الطعام بأنفسهم، وبعضهم يعجز عن ابتلاع الطعام الجامد، يحتاجون إلى طعام سائل مطحون. يحتاجون إلى طاقم الرعاية ليساعدهم في ارتداء الملابس والاستحمام. يستطيع 16 ولداً فقط دخول الحمام وحدهم، بينما يعتمد الباقون بشكل كامل على فريق العناية.
عندما يواجهون مشاكل صحية طارئة، يحتاجون إلى زيارة الطبيب أو دخول المستشفى. وهنا يكشف العالم عن وجهه القاسي. أطباء يرفضون استقبالهم في عياداتهم أو يجهلون كيفية التعاطي الطبي والإنساني معهم. مستشفيات تتنصل من مسؤولياتها تجاههم حين يتعلق الأمر بعمليات أو إجراءات طبية مكلفة. وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية تتكفل بمصاريف علاجهم، ولكن حين يكونون مجهولي الهوية لا تعترف الوزارة بوجودهم. يضطر العاملون في المركز أحياناً إلى تطبيبهم بما تيسر.
جرح الإعاقة الذهنية يحفر عميقاً لا في الأجساد والأرواح الصغيرة فحسب، بل في وجدان الأهل الذين يأبون في كثير من الأحيان تقبله والاعتراف به. الأهل ينقسمون بين من يتقبل إعاقة ولده ويستمر في زيارته، والاهتمام به، واستقباله في المنزل أثناء العطل، وبين من ألغى وجوده من حياته وحتى شطبه عن سجل الحياة قبل أن يفارقها، وبين الأهل الذين أثقلتهم أعباء البؤس والفقر والمعاناة التي تحرمهم من زيارة الابن المعوق. علاقات صعبة مجبولة بمشاعر الحب والعار والاستسلام واللامبالاة، تقابلها مشاعر الأولاد الصافية البسيطة.
رغم جرح الذكاء ثمة سرّ غريب في هذه العلاقة التي تجمع الأولاد بأهلهم. يشعرون بهم، ينتظرون زيارة البيت ولو عن غير وعي كامل، يفرحون بحضن عرفوا فيه أول لمسة حنان وأول خيبة. لذا تصبح العودة إلى المركز صعبة يرفضون النزول من السيارة، يودون البقاء مع أهلهم وأخوتهم في أحضان بيت قد لا يتسع لهم. لا أحد يحل محل الأهل، لكن في المركز أولاد كبروا ولم يعد لهم أهل يزورونهم، فأصبحت راهبات الصليب الأهل الذين يهتمّون بهم حتى النهاية.
ورشة السماء
تتداخل القصص حزينة مؤلمة. "نونو" الرجل الخمسيني الذي عرفه جميع من في المركز وأحبوه منذ طفولته، عاد إلى أحضان خالقه بعد أن افتقد طويلاً حضن الأم. هو عراقي الجنسية، أمضى كل حياته في دير الصليب، ومع أحداث العراق توقف أهله عن زيارته لمدة تفوق العشرين عاماً، ليعودوا ويتعرفوا إليه وقد كبر، ويتعرفوا إلى الحياة التي عاشها في مركز "سان دومينيك". بعد وفاته انتقلت عائلته إلى الولايات المتحدة، ومع وفاة الأم أوصت بترك ميراثها لراهبات الصليب وفاء لهن وللرعاية التي أحطنه بها.
"هذه إحدى المعجزات التي نعيشها يومياً"، تقول الأخت روز، "ففي خضم الصعوبات المادية التي يواجهها مستشفى الصليب بكل أقسامه تومض ومضة أمل مصدرها قوة علوية، بلا شك، فنتلقى مساعدة لا نتوقعها، كأن أبونا يعقوب عامل ورشة في السماء يرسل إلينا أشخاصاً لمساندتنا حتى لا يتركنا نتخبط وحدنا". نحاول تخيل ثقل الأعباء المادية التي يتطلبها تفان كهذا، وندرك أن فلس الأرملة يمكن أن يصنع المعجزات، وأن العطاء يصوغ أمل البقاء لأكثر من 800 مريض في مستشفى الصليب بكل فروعه.
لكن إذا كان أهل "نونو" قد تذكروه ووفّوه حقه بعد رحيله، فإن كثيرين غيرهم يرفضون الاعتراف بأبنائهم حتى عند وفاتهم، لا يريدون أن تشمت بهم الضيعة، هم الذين تخلّوا عن الابن المريض منذ زمن، وخبأوا وجوده عن الجميع، يتركون للراهبات أن يدفنوه بصمت ليموت بدل المرة مرتين. "بعض الحالات تحفر عميقاً في جرح الوجع، فتتوالد منه جراح جديدة. عائلات بأكملها يعاني أبناؤها من إعاقات عقلية شديدة، إخوة يتواجدون معاً في المركز، وأم تعاني من اضطرابات عقلية موجودة في القسم المخصص للنساء. أولاد يغادروننا وحيدين بلا أهل، نتذكر كل واحد منهم، ويكونون سنداً لنا، من فوق من عند الله"، تقول الأخت روز.
رتيبة حياة نزلاء "سان دومينيك" الصغار ومن باتوا كباراً بينهم. ومع نموهم وتقدم السنين يزداد ثقل الإعاقة وتزداد المتطلبات والأمراض كما تتراجع القدرات. يعيشون الحياة بحدها الأدنى رغم تفاني فريق الرعاية، لا نشاطات ترفيهية تذكر، سوى مبادرات مشكورة من جمعية فرسان مالطا. يصطحبون الأطفال الذين لا أهل لهم، ولا يذهبون في عطل إلى بيوتهم، إلى مخيم خاص في منطقة شبروح لبعض الوقت، واحياناً قد يصطحبونهم في رحلة. "نحن مركز إيواء، تقول راشيل، ولسنا مركز تأهيل، الشبيبة هنا غير قادرين على التفاعل أكثر، قلة منهم تستطيع متابعة التلفزيون مثلاً، أو حتى التفاعل معنا، لكن رغم هذا يبقى التواصل بيننا قائماً بطريقة ما. هم يشعرون بنا يهدأون إذا كنا هادئين، ويضطربون إذا كنا عصبيين أو نصرخ ونتحدث بصوت مرتفع".
نصرخ، نغصب، نتعب، نحزن، ولكن لا نستسلم. هذا شعار فريق الرعاية في مركز "سان دومينيك". فمن اختار العمل هنا يعيش رسالته بفرح و إلا لما استطاع تخطي عتبة المصعد المؤدي إلى المركز. كثر حاولوا وهربوا منذ اللحظات الأولى، وحدهم بقيوا من عرفوا أن عطاء الذات هو أسمى درجات العطاء.
عبودي لبس "البوط"
يوم زيارتنا إلى دير الصليب ومركز "سان دومينيك" تأنق الصغار والشبان، ارتدوا أجمل ثيابهم وانتعلوا أحذية واستعدوا لحدث استثنائي لم يفهموا كنهه. "عبودي" تحمّس للتحضيرات، صفّق، فرح بانتعال البوط (الحذاء). البوط يعني زيارة أمه وأهله وبيته، أحنى رأسه لتضع له المسؤولة العطر وجلس ينتظر. غادرنا الدار وعاد كل شيء إلى هدوئه المعهود. وحده عبودي جلس ينتظر بجوار الباب، رفض المغادرة، هو لبس البوط فكيف يبقى هنا؟ حاولوا إدخاله، رفض وبقي ينتظر موعد الذهاب إلى البيت حتى تعب. هذا قدره وقدر رفاقه، انتظار عبثي لا لقاء بعده. |