تجري العادة أن يتجنّب البعض منّا أن يذكر كثيراً خصال والدته أمام أي أحد قد خسر أمّه، أو أن يتحدّث بإسهاب عما يخطّط له في مناسبة عيد الام لما تحمله هذه المناسبة من معان خاصّة. كما يحرص كثيرون على عدم نشر الصور والابتعاد عن الاستفاضة في التعبير عن عمق ما يتركه هذا اليوم في نفس كل من جرّب مرارة الخسارة والفقدان. ولكن في لبنان قد لا تكون الخسارة على هيئة موت، بل قد تأتي على هيئة حقوق مسلوبة.

 

هي الأم ومن أعزّ منّها! ولكنّ هناك من لا يزال يعتبر أن هذه "المعزّة" قضية أخذ وردّ تحتمل النقاش، لا لشيء، بل لأن بعض قوانين الأحوال الشخصية تحكمها أعراف وقوانين ذكوريّة مجحفة بحق المرأة، والأم تحديداً. نعم لا تزال الطوائف في لبنان تتحكّم بقوانين الأحوال الشخصية، وتبقى المحكمة الجعفرية التابعة للطائفة الشيعيّة الأكثر "كرماً" في هذا التحكّم.

 

لطالما علت المطالب والصرخات في أروقة المحاكم. رجولة عقيمة تسجن أمّهات يرفضن التخلّي عن حضانة أطفالهن، أو يجدن أنفسهنّ مضطرات إلى التنازل عن كامل حقوقهنّ في مقابل تربية أطفالهن أو حتى مجرّد رؤيتهم. تكاد لا تكسب الأم أي قضية إلا بعد تنازلها عن حق من حقوقها. وكثيراً ما تجد الأم نفسها مرغمة على التنازل عن نفقة أولادها مقابل كسب هذه الحضانة.

 

هيام أبو مرق (20 عاماً) شابّة تزوّجت في سن مبكرة (16 عاماً) هروباً من واقع واجهته في منزل العائلة على حدّ قولها، ظنّاً منّها أنّها قد نجت في مجتمع لا يزال يواجه بخجل خطورة تزويج القاصرات، لتجد نفسها في منزل زوج معنّف لغته الضرب والشتم، مما دفع بها إلى طلب الطلاق. لم ترَ هيام ابنتها (4 سنوات) منذ نحو شهرين، بعد اختطافها إلى الهرمل على يد والدها.

 

فالزوج اختار إخفاء الطفلة انتقاماً من هيام التي طلبت الانفصال. وفي التفاصيل، تقول أبو مرق لـ"النهار": "لجأت إلى منزل عائلتي مراراً. وفي المرّة الأخيرة هربت من النافذة. لم أكن أتقبّله أبداً، حتى أنني عرفت أنني حامل في شهري الرابع ولم أكن مدركة لهذه الأمور بسبب صغر سنّي".

 

تضيف: "تعرّضت للتعذيب والضرب، ممّا دفع بي إلى طلب الطلاق. 5 سنوات مرّت على زواجي، ونحو عامين ونصف العام على طلب الطلاق، والمحكمة الجعفرية لا تنصفني". تروي معاناتها لـ"النهار" فتقول: "لم يجد القاضي جعفر كوثراني أن أسبابي كافية لطلب الطلاق، والسيّد محمد صولي لم يسمعني أبداً، ولم يسمح لي بالكلام. ترك الحديث للزوج. لا أدري كيف تمّ قبول دعوى الرؤية علماً بأن القضاء مجمّد. تنازلت له عن كلّ شيء، واليوم يريد أن أتنازل عن ابنتي لأحصل على الطلاق، وأنا متأكدّة من أن التنازل عن طفلتي أيضاً لن يمنحني الطلاق".

 

رفعت هيام دعوى نفقة وإثبات حضانة، حصلت بموجبهما على حكم نفقة "لم يلتزم بدفعها" على حدّ قولها، كما حصلت على حكمٍ نافذ بحضانة طفلتها، مع حق الوالد برؤية ابنته من ظهر يوم الجمعة إلى ظهر يوم الأحد، على أن يأخذها من منزل والدتها ويعيدها إليه. لكن الزوج، وأثناء تنفيذ حق المشاهدة في 28 كانون الثاني الماضي، أخذ الطفلة من المحكمة الجعفرية في حارة حريك إلى منطقة الهرمل، ولم يُرجعها حتى اليوم.

 

تقول الشابّة أبو مرق لـ"النهار": أخذها وأقفل خطّه، فقصدته إلى الهرمل فقال لي "نزّلتها ع بيروت". وتضيف: "عدت إلى بيروت، فقال لي "أنا في الهرمل، تبقي الحقيني"، عم يلعبوا فيني".

 

بعد نحو شهرين على خطف ابنتها، استطاعت هيام إدانة الزوج لتخلّفه عن تنفيذ حكم المحكمة المتعلّق بالحضانة، فأصدرت دائرة تنفيذ بعبدا، في 14 آذار الجاري، حكماً بسجنه لمدّة 6 أشهر كحد أقصى، أو لحين تسليم الطفلة إلى والدتها.

 

تختم أبو مرق حديثها بحرقة: "بدّي لعبتي"، مستحيل أن أتنازل عن ابنتي. هي لعبتي لأنني أنجبتها في عمر صغير. أقصى ما أتمنّاه أن أراه يتعذّب كما عذّبني، وأن يحترق كما حرق قلبي، وأن يُسجن. كنت أتمنّى أن أسمع هذا العام "كل سنة وإنتي بخير يا مامي"، ولكنّني متأكدّة أنها ستعود إليّ".

 

معاناة أخرى وقصّة ثانية. سلمى (اسم مستعار)، تروي لوعة مرور عيد الأمّ من دون ابنها، وتقول لـ"النهار": "بدأت قصتي بعد زواجي منذ نحو ست سنوات. تزوجت بشخص أكبر منّي بكثير، وكان عمري 16 سنة. أنجبت طفلاً، ولكنني لم أستطع إكمال حياتي معه لكثرة المشكلات وعدم التفاهم أبداً حتى وصلت إلى عدم التمكّن من الاستمرار في العيش معه".

 

تضيف: "حصل الطلاق، وكان عمر ابني تقريباً سنتين. بقي الطفل أولاً معي، إلّا أن أهلي رفضوا بقاء الوضع على ما هو عليه، وأن أستمرّ بتربيته. تواصلوا مع الأب الذي اصطحبه بدوره إلى سوريا. ومنذ ذلك الحين أحاول أن أتواصل معه لكنّه لا يسمح لي. منذ 6 أشهر لم أر ابني، ولا أعرف شيئاً عنه. أحاول أن أتواصل مع الجدّة فترفض حتى أن أسمع صوته".

 

تقول: "أهلي يرفضون حتى أن أرفع دعوى أو أن أقدم على أيّ فعل. طلبت منّهم فقط محاولة الاطمئنان عليه، وحاولت أن أقصد سوريا إلا أن محاولتي قوبلت بالمنع".

 

توجّه سلمى (اسم مستعار) بحرقة صرخة إلى الأمّهات في عيدهنّ: "أقول لكل أمّ لا تتركي طفلك مهما حصل". وتتوجّه إلى الأهل طالبةً الدعم والمساندة: "قفوا إلى جانب بناتكم، وامنحوهنّ القوّة، ولا تسمحوا لأي شخص بإبعاد طفل عن أمّه".

 

في عيد الأم، قضيتان تضافان إلى "أرشيف" من القضايا التي توثّق معاناة الأمّهات المحرومات من أطفالهن، ننشرها للتأكيد على أن حقّ الأمومة مقدّس، وحقوق الطفل مقدّسة لجهة سلامته النفسية التي تفرض وجوده في حضن أمّه ووالده على حدّ سواء، على أمل أن يكون هذا العام وكلّ عام مفعم بالأمّهات غير المحكومات بقيود الدين والمجتمع، وغير المحرومات من "حنان" القانون، ولتكن دعوة للاستعاضة عن أبيات الشعر والوعود بإقرار قوانين فاعلة تحقق العدالة للنساء.