في لبناني ضد السلام؟

قبل الغوص العميق في طبيعة المعطيات الجيو-استراتيجية والتاريخية والعملانية المتعلّقة بلبنان وعموم الشرق الأوسط، لا بدّ من البدء بطرح سؤال بديهيّ في ما خصّ السلام بين لبنان وإسرائيل: هل من لبناني عاقل، طبيعي وموزون، وغير مرتبط بهلوسات عقائدية دينية أو قومية عابرة للحدود الوطنية، يمكنه أن يكون ضد فكرة السلام كمبدأ عام؟

من هنا يبدأ النقاش، وهنا ينتهي، وما بين هذا وذاك ليس إلا تفاصيل لوجستية وإدارية وتفاوضية، يمكننا مناقشتها بشكل طبيعيّ وبناء، على قاعدة عملانية بسيطة هي مصلحة الشعب اللبناني وحفظ سيادة الدولة اللبنانية على أراضيها كاملة (مثلًا يمكن الاعتراض على وضع ضوابط على وجود الجيش اللبناني في المنطقة الحدودية كوضع مصر في اتفاق كامب دايفيد).

بمعنى آخر، النقاش هو على شروط السلام، وليس على مبدأ السلام، لأن مبدأ السلام بين دولتين غير قابل للنقاش (هذا رأي عموم الفلسطينيين على كل حال من أيام اتفاق أوسلو). فالسلام بين الدول (كلّ الدول من دون استثناء) هو القاعدة العامة، أمّا من يرفض السلام بالمبدأ فعليه هو أن يشرح – بعيدًا من عقيدته التي تخصّه هو وحده ولا تعني عموم الشعب اللبناني – ما هو البديل العمليّ عن هذا الخيار (مثلًا الحرب الأبدية)، وما هي الأهداف العملية التي يسعى هذا البديل إلى تحقيقها خدمة لمصلحة الشعب اللبناني (مجدّدًا، عملية، وليس فكرية). إن لم يستطع (ولن يستطيع) يترك له خيار التطبيع من عدمه، فهذا خيار حرّ للشعوب أوّلًا وأخيرًا، على المستوى الفردي والجماعي (الأردن وقع سلامًا باردًا لا أثر شعبي للتطبيع فيه).

بعد إقرار هذا المبدأ المنطقيّ الأساسيّ، لا بدّ من توضيح بعض البديهيات الأخرى التي تغيب عن النقاش في لبنان، أو يتمّ قمعها بالمواعظ "الأخلاقية" ومحاضرات التفوّق القيميّ المفترض حينًا، وبالقمع الأمني والتهديدات الجسدية والعنفية حينًا آخر (غالبًا ما يكون التفوّق القيميّ الإنساني والتهديد القمعيّ وجهين لعملة واحدة).

هذه البديهيات تنطبق في كلّ زمان ومكان، وعلى كلّ الدول من دون استثناء، منذ قيام نظام الدول الوطنية (ومعها تطوّر نظام القانون الدولي) مع انهيار عالم الإمبراطوريات. من شمال كوريا إلى روسيا وأميركيا اللاتينية وأقاصي أفريقيا، البديهيات هي نفسها، وعجيب غريب أن يقوم لبنانيون ولبنانيات في العام 2025 برفض هذه المبادئ العامة لتنظيم حياة البشرية جمعاء، وكأنهم (حرفيًا) من كوكب آخر.

أوّلًا، اتفاقيات السلام هي (حرفيًا) معاهدات تقوم بين الأعداء. يبدو ذلك بديهيًا لأيّ مراقب أو متابع، ولكن هذا المبدأ العام يتمّ القفز فوقه (أو عليه) بالموعظة الأخلاقية - القيميّة على قاعدة أنه لا يمكننا أبدًا الوصول إلى اتفاق سلام مع "العدو"! هذا يترافق دومًا مع سؤال يوجّه إلى مؤيّدي السلام (المواطنين الطبيعيين) بخصوص ما إذا كانوا "يعترفون" بأن إسرائيل عدوّ. وفي هذا تناقض مضحك، بحيث إنه لو لم يكن الوضع كذلك لما وجب أصلًا توقيع اتفاق سلام.

وبطبيعة الحال أيضًا (لأن البديهيات كلّها مقتولة في لبنان وإلّا لما وصلنا إلى هنا أصلًا) لا قيمة بتاتًا لاعتبار أيّ كان بأن إسرائيل دولة "معتدية غاشمة قاتلة مجرمة"، لأنها لو لم تكن كذلك لما كانت قد صنفت دولة عدوّة من الأساس. كلّ مشاريع السلام في العالم اليوم هي بين أعداء يكرهون بعضهم البعض (بما فيهم جزء أساسي من شعوب الدولتين)، ويتمنون (بل يسعون) إلى إسقاط النظام السياسي في الدولة العدوّة (أوكرانيا وروسيا على سبيل المثال).

ثانيًا، لا قيمة فعليّة للأضرار البشريّة والماديّة التي وقعت لدى الطرفين خلال فترة النزاع، ما عدا الحق المشروع للدول بالمطالبة بتعويضات إذا ما كان هذا المطلب محقًا، مع أنه نادرًا جدًا ما يتحقق وغالبًا ما يتمّ التعويض عنه بمشروع دوليّ للإعمار والتنمية (وهذا معروض على لبنان مع أن حزب اللّه هو من أطلق الحرب!).

لذا، فإن النقاش لا يمكنه أن ينطلق من مبدأ أن العدوّ تسبب في أضرار خلال عدوانه لا يمكننا "مسامحته عليها"، لأنه على هذه القاعدة لما تمّ عقد أي اتفاق سلام في التاريخ الحديث. الحرب العالمية الثانية تسبّبت في أكثر من 80 مليون قتيل، وانتهت بشراكات اقتصادية في أوروبا وعلاقات بناءة في آسيا (مع بعض الرواسب الكورية - اليابانية التي ما زالت عالقة حتى اليوم).

مصر على سبيل المثال (وهي الدولة العربية الأقوى) وقعت على اتفاقية كامب دايفيد على قاعدة دعم اقتصادها وجيشها ماديًا من قبل الوسيط (الولايات المتحدة)، ولم تأت على ذكر تعويضات ماديّة. المثال الأبرز لشرط التعويضات تاريخيًا كان ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الأولى (دولة مهزومة مثل إسرائيل بحسب نعيم قاسم) ولكن الأمر انتهى باستبدال تلك التركيبة بحرب عالمية أخرى.

ثالثًا (والأهم) منظومة الشروط المقبولة للسلام. يريدون جرّ لبنان إلى ما هو أسوأ من 17 أيار! هكذا يقال. طبعًا لا يقال ما هو تحديدًا السيّئ في اتفاق 17 أيار، ولا ما هو الأسوأ المطروح اليوم، وطبعًا لا يقال ما سيكون الموقف إذا ما تمّت معالجة تلك الإشكاليات الظالمة (لأنهم بالمبدأ ضد السلام). لبنان (لحسن الحظ) ليس معروضًا عليه أو مطلوبًا منه أيّ شكل من أشكال "سلام الخاسرين" مثلًا، كما ذكرنا، طلب من ألمانيا بحكم اتفاقية فرساي دفع تعويضات للحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى.

الرئيس الروسي بوتين يريد من أوكرانيا توقيع اتفاق سلام يضمن تخلّيها عن جزء أساسي من أراضيها لمصلحة روسيا، وهو ما ترفضه كييف (ولكنها مع السلام بالمبدأ). مصر فرضت عليها شروط عسكرية ليست حتى مطروحة على لبنان، وذلك لسبب بسيط أن الحرب لم تكن منذ العام 1949 (على عكس مصر) بين الجيش اللبناني وإسرائيل.

ما هو إذًا الشرط المذلّ الذي نرفضه بالضبط؟ لا أحد يجيب. أمّا الشرط التعجيزي وغير المنطقي الذي يربط مصير السلم بلبنان بقيام دولة فلسطينية (وهو ما لا تطلبه أي دولة عربية بما فيها السعودية) أو بقيام أي دولة أخرى بتوقيع اتفاق سلام (سوريا مثلًا)، فهذا بحدّ ذاته انتقاص للسيادة الوطنية واستقلالية القرار، لأننا لا نستطيع رهن مصلحة اللبنانيين غصبًا عنهم - بعد 56 عامًا من ممارسة تلك العادة السيئة - بمصير الآخرين، خصوصًا أن كلّ الآخرين لا يرهنون مصالح شعوبهم بقرارات لبنانية.

يبقى سؤال وحيد، يلجأ إليه العقائديّون الذين يرفضون السلام بالمبدأ ولكنهم يخجلون بقول ذلك (لأننا في العام 2025): هل إسرائيل نفسها تريد السلام معنا أصلًا؟ ممتاز. إذًا لبنان سيعرض وإسرائيل سترفض. فليكن. أحرجوا العدوّ الغاشم!