قارب الموت: توقيف أصغر ملوك تهريب البشر بعكار

ما زالت قضية غرق عشرات الأشخاص على متن "قارب الموت" قبالة ساحل طرطوس السورية تتفاعل، من دون أن تكتمل فصول هذه المأساة الإنسانية، التي تخفي الكثير من الملابسات أمنيًا وحتى سياسيًا، وسط صمت رسمي مطبق على كارثة شغلت العالم.

وفيما لم تنته عمليات إجلاء الجثامين والتثبت من هويتها، برز تطور أمني بإعلان الجيش اللبناني أن مديرية المخابرات أوقفت بتاريخ 21/ 9/ 2022، أي قبل غرق المركب، المواطن (ب.د.) للاشتباه في تورطه بتهريب مهاجرين غير شرعيين عبر البحر، وأنه اعترف بالإعداد لعملية التهريب الأخيرة من لبنان إلى إيطاليا عبر البحر بتاريخ 21/ 9/ 2022، والتي أسفرت عن غرق المركب قبالة الشواطئ السورية بتاريخ 22/ 9/ 2022.

وبحسب بيان الجيش "ثبت نتيجة التحقيق تورطه بإدارة شبكة تنشط في تهريب مهاجرين غير شرعيين عبر البحر، وذلك انطلاقاً من الشاطئ اللبناني الممتد من العريضة شمالاً حتى المنية جنوبًا".

ملك المهربين؟
وأكد مصدر أمني مسؤول لـ"المدن"، أن الاسم الكامل للموقوف هو بلال ديب، وملقب بـ"أبو علي نديم"، كان متواريًا عن الأنظار، وله سوابق كثيرة بتجارة التهريب والمخدرات. وألقي القبض عليه ضمن عملية أمنية في طرابلس، رغم تنقله بحذر شديد . وبحسب ما كشفت التحقيقات، وفق المصدر، فإن "أبو علي"، هو من رتب العملية الكاملة لهذه الرحلة المميتة، من شراء المركب، وتجهيزه لوجستيا وإحضار القبطان، إلى استقطاب الهاربين وقبض الأموال منهم.
ويصف المصدر هذا الرجل بـ"ملك" المهربين في ببنين العكارية وأكبرهم، وأنه تقاضى 6 آلاف دولار عن كل شخص في هذه الرحلة من دون أن يكترث لتوفير أدنى إجراءات السلامة. ما يعني أن المعدل الوسطي للأموال المحصّلة من هذه الرحلة، إذا كانت تحمل مئة راكب على الأقل، يصل نحو ستمئة ألف دولار.

وفيما يتوجه بعض أهالي الضحايا اللبنانيين والفلسطينيين في مخيم البارد للادعاء عليه، يقول المصدر إن عمليات البحث عن مهربين آخرين مستمرة، و"أسماؤهم معروفة لدينا، وسبق أن أوقفنا عددًا منهم قبل أن يتخذ القضاء قرارًا بالإفراج عنهم".

القضاء مسؤول؟
ويستنكر المصدر تحميل الجيش والقوات البحرية المسؤولية الكاملة باستمرار رحلات الهجرة غير النظامية، ويلقي اللوم على القضاء، "الذي لا يواكب الإجراءات بالمستوى نفسه للجيش".

ويقول إن الجيش دوره إلقاء القبض على المهربين وتوقيف الهاربين وحجز "المركب" وإحالة الملف إلى القضاء المختص، "وهناك الكارثة، حيث لا يتم اتخاذ الإجراءات الصارمة، أو لعرقلة عمل المحاكم بسبب اعتكاف القضاة". وبعض العائلات التي يتم توقيفها من قبل الجيش، "يهربون مرة ثانية وكذلك المهربين يستأنفون عملهم فور إطلاق سراحهم".

هذه المبررات، يجدها كثيرون كنوع من التهرب من المسؤولية، خصوصًا مع تصاعد الحديث عن تورط أمنيين، بمن فيهم عناصر من القوات البحرية، لتسهيل عمليات التهريب مقابل مبالغ ضخمة بالدولار، يتقاضونها كرشى. وهنا، يعقب المصدر قائلًا: "بعض المهربين يروجون أن لديهم علاقات مع جهات أمنية حتى يفرضوا مبالغ كبيرة بالدولار على الهاربين على قاعدة أن جزء منها يذهب لعناصر أمنية لتسهيل الرحلات. وهذا غير صحيح. وحتى لو ثبت تورط بعض الأفراد الأمنيين فهم يقومون بذلك بصفتهم الشخصية".

ويؤكد المصدر بالقول: "إن الجيش والقوات البحرية يعملون بكامل جهوزيتهم، "لكن قدراتنا المتواضعة لا تغطي كامل الشاطئ البحري. في طرابلس الشاطئ مضبوط نسبيا، خلافًا لساحل عكار حيث يصعب ضبط كل النقاط. وهناك مراكب تخرج من عمشيت وكذلك من بيروت ".

أصغر المهربين؟
في المقابل يؤكد مصدر موثوق من ببنين العكارية، مسقط رأس المهرب "أبو علي نديم"، لـ"المدن" أن هذا الرجل يمكن وضعه بالدرجة الثالثة أو الرابعة في فئة المهربين، حتى "لا نقول من صغار قومهم".

وبحسب المعلومات فإن أبو علي يسكن في مدينة الميناء في طرابلس ويعمل في ببنين بمجال التهريب. والمركب الأخير كان الثالث من بين المراكب التي هرّبها، وتمكن من جني أموالاً طائلة. أما مهربو عكار الكبار، وفق المصدر، فهم شخص من آل ديب (غير أبو علي)، إضافة إلى مجموعة من 4 أفراد من آل أويظة، وآخرين من آل خلف وطالب وسعد الدين والحداد وغيرهم.

ويكشف المصدر أن كبار مهربي عكار لديهم باع طويل بعمليات التهريب، ويتحركون بدقة فائقة، وهم من أثرياء المنطقة نتيجة تجارتهم. ويتحدث هؤلاء المهربون أمام من يعملون معهم ويلجأون إليهم للهرب، عن شبكة علاقات قوية أمنيًا وسياسيًا توفر الغطاء لهم، وتمكنوا من تهريب عشرات المراكب مؤخرًا، ناهيك عن غيرها منذ تفشي الظاهرة بعد الحرب السورية، وبلوغها الذروة غير المسبوقة بعد اندلاع الأزمة في العام 2019، ووصلت مداها تحديدًا في الشهرين الأخيرين من السنة الحالية.

ويذكر أن هؤلاء المهربين يستقطبون مئات العائلات من الداخل السوري، وبتسهيلات أمنية سورية، وفق ما كشفت "المدن" في تقرير سابق.

مأساة العائلات
ميدانياً، شهد مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين صباح السبت، تحركات لعشرات الشبان والأهالي، تعبيرًا عن غضبهم من مصابهم الكبير، إذ خرج من المخيم في هذه الرحلة ما لا يقل عن 25 شخصاً، نجا منهم أربعة، فضلاً عن مهاجرين فلسطينيين آخرين على متن هذا القارب من مخيم شاتيلا في بيروت.

وطالب أبناء المخيم بإنزال أشد العقوبات على المهرب "أبو علي" واتهموه بالنصب والاحتيال وخداع المهاجرين وإجبارهم ليلة الانطلاق على صعود بمركب غير آمن.  
وشيع اليوم مخيم نهر البارد كل من عبدالعال عبد العال وخالد عبدالعال بمأتم مهيب حيث وريا الثرى في جبانة المخيم. فيما لم تصل جثامين أخرى، حتى الآن، إلى شمالي لبنان، بعد تسليم 11 جثة يوم الجمعة.

بالموازة، أعلن الصليب الأحمر اللبناني أنه يعمل على توفير انتقال ذوي ضحايا القارب الذي غرق قبالة سواحل طرطوس في سوريا عبر معبر العريضة إلى مستشفى الباسل للتعرف على الجثامين ليتولى بعدها الاستلام والنقل، وكذلك نقل الناجين المصابين إلى الأراضي اللبنانية ضمن الأصول المعتمدة بالتنسيق والتعاون مع منظمة الهلال الأحمر العربي السوري التي وضعت كامل إمكاناتها للمساعدة في هذه الكارثة، وكذلك بالتنسيق الكامل مع الأمن العام اللبناني ووزارة الصحة العامة والهيئة العليا للإغاثة.

ومن الجانب السوري، أعلن مدير الهيئة العامة لمستشفى الباسل إسكندر عمار، عن ارتفاع عدد ضحايا غرق المركب قبالة ساحل طرطوس إلى 89 شخصًا، في حصيلة غير نهائية. وقال إن عدد الذين يتلقون العلاج في المستشفى بلغ 14 شخصًا، اثنان منهم بالعناية المشددة، وتمّ إخراج ستة منهم، وأشار إلى أن "إجراءات تسليم الجثث لذوي الضحايا مستمرة أصولاً بعد تعرّف الأهالي عليها".

وسبق أن أعلنت وزارة النقل بحكومة النظام السوري أن القارب انطلق من المنية شمالي لبنان متوجهًا نحو أوروبا، وعلى متنه ما بين 120 و150 شخصًا من عدة جنسيات، وغرق قرب سواحل جزيرة أرواد بمحافظة طرطوس. وعُثر على غالبية الضحايا والناجين في جزيرة أرواد، ومنهم من وُجِد عند ساحل مدينة عمريت والمنطار وغيرها من المواقع.