المصدر: النهار
الكاتب: اسكندر خشاشو
الخميس 28 آذار 2024 11:16:12
عادت قرى العرقوب إلى الواجهة من جديد بعد المجزرة التي خلّفتها الطائرات الإسرائيلية في بلدة الهبارية وأوقعت 7 شهداء وعدداً من الجرحى من أبناء البلدة المتطوّعين والمسعفين.
ربما هي لعنة الجغرافيا لهذه القرى، التي وضعتها دائماً في مواجهة الأحداث، فهي تقع على عقدة حدودية.
من شبعا إلى كفرشوبا وصولاً إلى الهبارية، كفر حمام، الوزاني وحلتا، جميعها قرى سنيّة، تمركزت عند المثلث اللبناني – الإسرائيلي – السوري، وضمن محيط شيعيّ لبناني كبير جداً.
هي منطقة شهدت بدايات العمل الفلسطيني المسلّح، واختارها ياسر عرفات منطلقاً لبدايات العمليات العسكرية التي قامت بها حركة فتح الفلسطينية. وأمضى أبو عمار أياماً طويلة في العرقوب، وأطلق عليها تاريخياً اسم "هلال المقاتلين"، بدءاً من ثورة سلطان باشا الأطرش والثورة الفلسطينية، ومنها انطلقت الشرارات الأولى للمواجهة الفلسطنية - الإسرائيلية منذ العام 1967، حيث كانت تُسمّى "فتح لاند"، وقدّمت المئات من الشهداء في سبيل تحرير الجنوب.
دفعت هذه القرى أثماناً كبيرة نتيجة تعرّضها لقصف إسرائيلي مدمّر، خصوصاً كفرشوبا، التي تحوّلت إلى ساحة قتال وهدف للغزوات الإسرائيلية مرات عدة خلال السبعينيات، وهجرها أهاليها بالكامل في أكثر من مرة.
وبعد توقّف العمل الفدائي في المنطقة، لم تسترح هذه القرى، بل بقيت مسرحاً للمواجهات، نتيجة موقعها؛ فكانت تتغير "المقاومات" وأسماؤها، وتبقى ساحة المعركة لا تتغيّر. وبعد الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000، بقيت المراكز العسكرية منتشرة في هذه القرى وعلى سفوح جبالها، وفي حرب 2006 أيضاً تعرّضت القرى لتدمير هائل.
تجمّع وصلاة لأهالي العرقوب قبالة الحدود
يدرك "حزب الله" أهمية هذه العقدة الجغرافية فهو لم يتركها، وإن أبقى على مراكزه بعيدة عن المناطق الآمنة، إلّا أنه لم يوفر جهداً إلا استعمله لاختراق البيئة في هذه القرى، وبذل مجهوداً عبر الخدمات الاجتماعية والاستقطاب السياسي والمادي. لكن التحوّل الاساسي ظهر في العام 2005، عقب اغتيال الرئيس الحريري، لتحدّد هذه البيئة خيارها بالأغلبية الساحقة إلى جانب سعد الحريري، فشاركت في تحرّكات 14 آذار، ونادى أهاليها بالسيادة والاستقلال؛ وذلك لم يثنِ الحزب عن محاولاته للاختراق بنفس الأساليب.
وفي خضم الأحداث السورية التي انطلقت في العام 2011، عادت العين إلى قرى العرقوب، التي استقبلت أعداداً هائلة من النازحين، إضافة إلى تفاعل أهاليها مع ما يحدث على الجانب الآخر من الحدود القريبة جداً. فهناك من تحدّث عن تقديم السلاح إلى المقاتلين، خصوصاً في بيت جن وقطنا وحَضَر المرتبطة عبر طرق جبليّة بقرى العرقوب، والتي كانت تحت سيطرة جبهة النصرة، في مقابل مجموعات أخرى قيل إنها شاركت في القتال ضد الجبهة، تحت اسم سرايا المقاومة، وكانت هي المسؤولة عن الحدود من الجانب السوري الذي يقع تحت سيطرة النظام.
وبعد الأزمة المالية التي حلّت بتيار المستقبل وتوقفه عن أداء الخدمات، فعّل "حزب الله" نشاطاته في البلدات، وعمل على توسيع وتكبير ما يُسمّى سرايا المقاومة، وكثّف تقديماته الاجتماعية، بالإضافة إلى حركة "تشيّع" بدأت تظهر في بعض القرى، خصوصاً في كفرشوبا وشبعا، حيث ارتفعت هذه النسبة في السنوات العشر الأخيرة إلى حدّ كبير. واستمرّ الخرق بعد الأزمة الاقتصادية وكورونا، وافتتح الحزب عيادات، وقدّم المساعدات والرواتب، وارتفعت كثيراً نسبة المنضوين إلى سرايا المقاومة.
كذلك، جهد الحزب في محاولة الفوز بدعم المؤسسات الرسمية، خصوصاً البلديات، ونجح في وضع اليد على بعضها من خارج القوة السنّية الرئيسية المتمثلة بـ"تيار المستقبل".
منزل خليل أسعد علي الذي استشهد فيه مع زوجتة في شبعا بداية الحرب
ولكن على الرغم من الاختراقات ما زالت هذه البيئة بأكثريتها خارج إطار الثنائي، وهذا ما أظهرته الانتخابات، خصوصاً في الدورتين الأخيرتين، حين لم ينجح ابن بلدة شبعا النائب قاسم هاشم في نيل أكثر من 25 في المئة من بلدته شبعا، بوجود مرشح واضح لتيار المستقبل. وهكذا كان الوضع في باقي القرى، في ظلّ استثناءات بسيطة في كفرشوبا. وكانت هذه القرى سبباً أساسياً في اختراق لائحةِ قوى التغيير لائحةَ الثنائي بمقعدين، نتيجة تصويتها إلى جانب التغيير على الرّغم من جميع المحاولات.
وبحسب عدد من المطّلعين من أبناء القرى، فإن أهالي هذه القرى يلتقون مع "حزب الله" في فكرة المقاومة والعداء لإسرائيل، خصوصاً أنهم أصحاب تاريخ في هذا الأمر، إلّا أن هناك شبه إجماع على تحييد هذه القرى عن الصراع، بعد دفعهم أثماناً كبيرة تاريخياً؛ وهم يرفضون تحويل قراهم إلى منصّات صواريخ بالمطلق، وهم أبلغوا "حزب الله" بهذا الأمر.
وبعكس كلّ ما يشاع عن سيطرة الجماعة الإسلامية على هذه المناطق، فإن هذا الأمر غير صحيح. فالجماعة حاضرة في هذه القرى، ولكن ليس بالقدر الذي يجري تصويره، لا بل هي أضعف بكثير. والإسلاميون في هذه القرى هم منقسمون بين عدة أجنحة تابعة للجماعة وغيرها من الجماعات، وحتى حضور المنظمات الفلسطينية التي كان لها حضور تاريخيّ تلاشى مع الأيام ومن بقي فليس مؤثراً.
وبرأي المطّلعين، هناك من أخطأ في بداية الحرب عندما اعتبر أن البيئة المؤيّدة للقضية الفلسطنية ستلتف حوله فقام ببعض العمليات البسيطة من هذه القرى، خصوصاً من شبعا، ليأتي الرد الإسرائيلي عنيفاً، فتوقفت العمليات من داخل القرية. ويردّون ما جرى بالأمس إلى عملية إخلاء للقرى على الشريط الحدودي تدفع به إسرائيل، فأهالي هذه القرى لم ينزحوا، ولم يغادروها، على الرغم من موقعها. وربما هذا الشيء أغضب الإسرائيليين الذي يخلون مناطقهم المقابلة لهذه القرى.
يقرّ الجميع بعمليات التشيّع الجارية في هذا القرى بأعداد كبيرة نسبياً للمنتسبين إلى سرايا المقاومة، في مقابل المناطق الأخرى، وبأن وجودهم الدائم في هذه القرى يجعلهم يظهرون بأنّهم قوة كبيرة. لكنهم يعترفون أيضاً بأن القرى لم تشهد أيّ عمليات من بين الأحياء المأهولة أو القريبة منها، بل من الأحراج والجبال البعيدة، وهذا أمر طبيعي نتيجة الموقع ووجود "حزب الله" القديم هناك.